Times of Egypt

نصف العلم والفن من أفواه بسطاء الناس.. تجربة ذاتية (4-6)

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

لم يكن الذين نطلق عليهم «أطفال الشوارع».. بعيدين عن عيني وسمعي. ولا أنسى تلك الليلة.. التي غاصت خلالها قدماي في لحمهم. كنت عائداً من عملي بعد الواحدة ونصف صباحاً، وقفت على الجانب الأيسر من ميدان «باب اللوق»، وتراءى لي «كوبري» كان يعتليه إلى الضفة اليمنى، وقلت أصعد إليه، بدلاً من العبور من نهر الشارع؛ حيث السيارات التي كانت مطمئنة إلى خلاء الشوارع من المارة، فتسرع بلا تحسب.. في ذلك الظلام الذي يخيم على ميدان، انطفأت أغلب اللمبات.. النابتة في أعمدة تتوزع في جوانبه، على مسافات متباعدة.

صعدت الكوبري حتى الدرجة الأخيرة، وغصت في الظلام على مهل. فإذا بي أدوس لحم آدميين، سمعت أنينهم. توقفت أغالب دفقة من رعب.. سرت في أوصالي فجأة، وقلت أتقهقر.. فإذا بي أدوس لحماً جديداً، تقدمت إلى الأمام.. فلم يختلف الأمر. مددت بصري لأرى، فإذا برؤوس تنبت في الظلمة، ووجوه لا أتبين ملامحها جيداً، لكنني أدركت أنه هؤلاء المشردين.. قد وجدوا في الكوبري – الذي يخلو من المارة في ساعات الليل المتأخرة – ملاذاً ينامون على صفحته.. الممتدة حتى الصباح.

وكنت أراهم على أسيجة الحدائق، ومبعثرين في حديقة ضيقة.. أمام مسجد «السيدة زينب»، تتوسط أول شارع «بورسعيد».. قبل أن يزيلوا خضرتها المُجهَدة، ويقطعون أشجارها قصيرة القامة، فيهدمون لهم عالمهم البسيط. 

وكم رأيتهم عند جدران مبنى مؤسسة «دار الهلال» الصحفية؛ سواء على رصيف يمتد أمامها، أو على حافة الشارع الذي يسري خلفها. وحين كنت أهبط إلى نفق تحت محطة مترو «السيدة زينب».. مفضلاً إياه عن صعود الكوبري، كنت أراهم يتكومون في ظلمته، فتيانا وفتيات، حتى انتبهت الشرطة لما يحدث في هذا النفق ليلاً، فأغلقته زمناً.

كان بعضهم يتوزَّع على المقاهي.. يمدون أيديهم للناس، فيعطيهم البعض قليلاً، وتنهرهم الأغلبية، بل تهشهم.. وكأنهم بعوض، هبط على الوجوه فجأة.. من شواشي الشجر، حول اللمبات الواهنة. لكن المكان المختلف – الذي رأيتهم فيه كان خلال ثورة يناير – إذ جاءوا إلى ميدان التحرير، وهتفوا مع الهاتفين؛ وكأنهم قد وجدوا فرصة.. ليشاركوا الناس أي شيء.

لهذا، لم يكن من الجائز تجاهل وجودهم هذا.. حين كتبت روايتي المشهدية عن الثورة «سقوط الصمت»، ثم تحولوا إلى أبطال في روايتي «باب رزق».. التي استفدت فيها من كل معرفتي المباشرة السابقة عنهم، أو ما قرأته في دراسات اجتماعية بحثت حالهم.

أتذكَّر أن هؤلاء، كانوا محور حديث دار بيني وبين السفير «أحمد أبو الغيط» حين كان وزير خارجية مصر. وقتها كنت أحضر ندوة عن «ثقافة السلام».. بمكتبة الإسكندرية، جلبت إليها السيدة «سوزان مبارك».. كثيرين من حائزي جائزة نوبل للسلام، وكانت أيامها تفكر في نيلها مثلهم، وتعتقد أن حشدهم على هذا النحو.. سيعزز فرصها.

في استراحة بين جلستين، اقتربت من «أبوالغيط» – الذي رأيته يجلس بالقرب من السيدة الأولى – وقلت له:

ـ لديَّ فكرة للسيدة «سوزان» إن كانت تريد الحصول على نوبل.

نظر إلى مبتسماً، فواصلت:

ـ هي أفضل مما تفعله، ولن يحقق لها شيئاً، وعليك أن تبلغها بها.

صمت برهة، وسألني:

ـ وما هذه الفكرة؟

أجبته على الفور:

ـ من بين الحاضرات، سيدة نالت نوبل في السلام.. عن جهدها مع الجائعين وضحايا الحروب، ولدينا في شوارع مصر ضحايا، يُقدَّرون بعشرات الآلاف.. جراء السياسات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة، إنهم أطفال الشوارع، فإن جمعتهم السيدة «سوزان» من كل المدن، ووفرت لهم من يمحو أميتهم، ويعلمهم حرفة.. يتكسبون منها، فإن مشروعاً كهذا، كفيل بلفت الانتباه إلى جهدها. وقد يقصر المسافة سريعاً.. بينها وبين نوبل.

صمت برهة، ثم قال لي:

ـ أبلغها أنت بفكرتك.

ضحكت، وقلت له:

ـ أنت تجلس إلى جوارها، وأنا في صف متأخر، وإن تقدمت إليها لأبلغها.. سيحال بيني وبينها بالطبع، بل قد يلحق بي أذى.

انحزت إلى الموضوع الأول.. في أطروحة الماجستير، ومع الطرق الصوفية كانت لي – أثناء الدراسة الميدانية – حكايات وعلاقات مع بسطاء من نوع آخر، لمست أكفهم.. حين شبكت أصابعي في أصابعهم، أثناء حضرات الطريقة «الحامدية الشاذلية». ونمت على حصير بال بينهم.. مع الطريقة «الخليلية». 

كانوا قادمين من القرى، والشوارع الخلفية في المدن، يصفون أنفسهم بأنهم «الفقراء إلى الله»، وهو وصف يجب أن يتمسك به كل مؤمن.. مهما علا شأنه، وامتلأت جيوبه، وفاضت طاقة جسده، لكنهم في الحقيقة.. كانوا أيضاً فقراء إلى حاجات الدنيا، وضروراتها.

بعد حضرة «الحامدية الشاذلية»، كنت ألتقيهم في ساحة مسجدها؛ منهم موسرون مكتفون، ومنهم من يرسفون في أغلال الفقر، فأحدث كل فئة بخطابها، لكنني كنت منجذباً أكثر للغلابة منهم، الذين يبحثون عن طبابة.. في رحاب الذكر والإنشاد.

وفي مولد الشيخ «أبوخليل» بالزقازيق، كنا نصعد إلى شقة.. اختارها أحد شيوخ فرع للطريقة – التي توزعت وقتها على مجموعات ثلاث – لمريديه، فأنصت إلى حكاياتهم.. التي لا تنقطع، حتى يهجم علينا النوم، فنغطس فيه راضين.

فيما بعد، عرفت مريدي الطريقة «العزمية» – أبناء المدن.. الموزعين على مهن معتبرة، والقادمين من الريف.. من أصحاب الأرض والأجراء – يأتون جماعات متنوعة، ريفيون يرتدون الجلابيب، وأبناء مدن يرفلون في بذلات مهندمة. ألقى – أحياناً – كلمات فيهم.. بطلب من شيخ الطريقة «علاء أبوالعزايم»، وأتناول معهم طعامهم، ويطول بنا حديث.. عن الله والناس.

(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة