أحمد الجمال
لا بأس فيما أظن من انعطافة إلى نطاق الريف وذكرياته، حيث أضحى حديث السياسة والاستراتيجية والصراعات والحروب والأزمات الدولية والإقليمية، وصعوبة الظروف الاقتصادية، وأصبحت وأضحت وأمست رؤية هياكل عظام الأطفال الجوعى والأواني الفارغة الممدودة بأيادٍ هزيلة.. المصحوبة بصيحات تستميت في الحصول على مغرفة واحدة من طعام لا يمكن تمييز ما هو.
كل ذلك صار يُضني الفؤاد ويفطر القلب، ويكاد يُذهب ما تبقَّى من عقل، ويمحو كل متعة بما فيها متعة الطعام، بل ولا أبالغ إذا قلت إنه تسرب إلى القناعات الإيمانية، لدرجة صار فيها المرء يدعو ربه عقب كل صلاة، وعند وضع الجنب على الفراش: «اللهم ارزقني فهماً لما يجرى.. » و«إلى متى يا رب تتركنا أقدارك صرعى الهوان والعجز؟!»
عشت سبتمبر، وأدركت ما فيه.. منذ خمسة وسبعين عاماً، يعنى قرناً إلا الربع. شعبطة في «خُصم» غبيط الجمل، أي متمسك بشدة في الزاوية السفلى للكيس.. الذي يوضع على ظهر البعير، لتتم تعبئة الردم والسبخ فيه، وأحياناً يمتلئ بخيرات الغيط.. عند العودة آخر النهار. وكان العم إبراهيم – الذي جاء من بر المنوفية ليبحث عن عمل في بر الفؤادية (الغربية بعد ذلك) – فاستقر مع عائلتنا.. بعد أن استقبله الجد، وسأله السؤال التقليدي الذي ورثته أنا حتى الآن. إذ بمجرد السلام وشوية كلام.. ينطلق الاستفهام: «امَّال أنت منين؟». أي «وعليه. أنت من أين؟». فيرد من المكان الفلاني، ويأتي التعقيب بالجودة: أحسن ناس. تعرف عيلة «عائلة» فلان أو علان؟ وبسرعة يأتي الاستفهام الثاني، فإذا كنا صباحاً: «أجيب لك فطار، أو أنت فطرت؟». وهكذا إذا كنا ظهراً أو مساء يكون الاستفهام عن الغدا والعشا!!
تخصص عم إبراهيم في السرحان «الذهاب للحقل» بالبهائم وبتحميل الجمال.. ردماً وسباخاً، أو أكياس التبن والقطن، وأجولة «شوال» الغلة «القمح» أو الذرة أو الفول. وفي سبتمبر يكون موسم جني القطن قد افتتح.. فقد ظهر القطن الأبيض بارزاً من القواقع الجافة.. ذات الأطراف المدببة الحادة، وذبلت الأوراق.. بعد أن كانت خضراء داكنة مفرودة، إلى جوار الزهور الصفراء الرقيقة. هذا إذا أفلت كلاهما من دودة القطن، التي كانت وستبقى وباءً مخيفاً.. يلزمه جيوش من البنات والصبيان والرجال والنساء.. لمقاومته، لأنه إذا استفحل تكاثر، حتى إنه في أحد أعوام الستينيات كانت جحافل الديدان تجهز على الحقول، ثم تسير على السكك الترابية.. زاحفة بغير هدف. وكانت لها رائحة مميزة. ولذا ظهرت المبيدات، التي كان أشهرها – في بداية استخدامها – «التوكسافين» عسلي القوام واللون، وإذا أضيف إليه الماء صار كالحليب.. ولكنه شديد السمية، تكفي قطرات منه لقتل حيوان أو إنسان. وإذا غُسل الإناء الذي كان يحتويه فى الترعة، تسمَّم السمك وطفا على وجه الماء، فيسارعون إلى انتشاله وفتح بطنه بسرعة شديدة وتفريغ أحشائه وإلقائها بعيداً.. ليكون صالحاً للأكل قبل انتشار السم في بدنه!
وفي موسم جني القطن، واستمرار آثار فيضان النيل – قبل السد – تكون تحذيرات الأمهات: «إذا وجدت بلحاً أحمر أو الجميز.. طافية على وش مياه الترعة، فلا تمد يدك وتأخذها؛ لأنها عفاريت جن.. تضحك عليك لتشدك إلى القاع». وطبعاً كان ذلك تحذيراً من الغرق في المياه الدافقة، الغالب عليها لون الطمي الأحمر. وفي كل موسم جني، يكون لنا نصيب.. إذ بعد عملية الجني الأولى للقطن الأبيض الزاهي، ثم الجنية الثانية لما كان قد تأخر تفتيحه من لوزات، ننتشر وقد ربطنا حبالاً رفيعة على وسطنا، وشددنا الجلابية قليلاً لأعلى.. حتى يتكوَّن عب «فراغ» بين أجسادنا وبينها، وننحني لنجمع ما تبقَّى من نتف القطن العالقة في القواقع الجافة، التي كانت لا تتورع عن خربشة أذرعنا وسيقاننا الغضة، فيما تتكفل الشمس الحارقة بخلفية أعناقنا «قفانا» العارية.. لتلهبها وتحرق جلدها، فإذا تسلَّخ وتأوَّه المسلوخ، جاءته السخرية «التأويز» لاذعة.. بأنه طري وبندري «أي من البندر»!
ويمتلئ «العبّْ» – الذي كان له اسم مشهور هو «الحزِّية»، زاي مشدة مكسورة – وربما جاء من الحزّْ.. أي أثر الحبل المشدود في الوسط، على جلد البطن والأجناب. ونعود للأمهات بما صيَّفناه. ليباع إلى الباعة الجائلين.. الذين كانوا يجمعون ذلك النوع من القطن، ليصبح هو «السكيرتو»، الذي يتم تنجيد الحشايا والوسائد به. وكان بدوره ينقسم لنوعين؛ أحدهما «عفريتة». والثاني «سكينة». ولا أذكر أيهما كان الأفضل.
وفي موسم جني القطن كانت الإذاعة تبث تقارير بورصة القطن. وما زلت أذكر السرعة العجيبة، التي كان قارئ التقارير يتحدث بها.. مردداً أسماء أنواع الأقطان. طويل التيلة. ومتوسط. وقصير. وكان قطن «الكرنك» هو البريمو. وكانت درجات النقاء التي يتحدد على أساسها سعر المحصول.. تتوزع بين «فري جود. وجود»، ينطقونها بالإفرنجي. وما زلت أذكر يوم صرخ الخواجة اليوناني – الذي كان يشتري الأقطان من مخازن العائلات – وهو يأمر مساعديه بالصعود إلى قمة المخزن.. بالقرب من سقف الغرفة، ويأتي بعينة من أماكن متفرقة من خلفية المخزن؛ لأن أصحابه يضعون القطن المتميز جداً على الواجهة «الوش»، ويخفون الأقل تميزاً في المنتصف أو الخلف. وفجأة وجد الخواجة قطناً أقل جودة – أقرب للسكيرتو – فغضب، ولإرضائه.. قُدمت طبلية «مائدة» عامرة بالبط المحمر والأرز المعمر والشوربة الدسمة والرقاق المسقسق.
نقلاً عن «الأهرام»