جمال فهمي
تحلُّ بعد أيام.. الذكرى الخامسة والخمسين لرحيل أمير فقراء أمّتنا العربية، ورمز وأبهى وأجمل أحلامها، وأعزّ أمانيها في الحرية والتحرّر والوحدة، والازدهار والتقدم والعدالة والكرامة..
… إنّها ذكرى رحيل جمال عبد الناصر (28 سبتمبر/أيلول 1970).
يليق بنا الآن.. حقاً، ونحن نستقبل هذه الذكرى الحزينة، في تلك الأجواء المظلمة – التي تعيشها أمّتنا حالياً – أن نهتف بشطر بيت الشعر الذي صدح به أبو فراس الحمداني.. وهو في أسر الأعداء، قائلاً: «في الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ».
جمال عبد الناصر.. ذاك البدر الذي رحل مُبكراً، عن عمرٍ لم يتجاوز الـ52 عاماً، أي أقلّ من السنين التي مرّت على غيابه حتى الآن. غير أنه لم يَغِبْ أبداً، وبقي وسيظلّ يُثير الحسد.. في نفوس أحياءٍ يتمدّدون كالجيف والجثث، فوق قلوب وصدور شعوب أمّتنا.
سوف نحيي هذه الأيام ذكراه.. لعلّ تلك الذكرى العطرة، تبدّد طعم المُرّ الذي نتجرّعه، وتنعش في صدورنا الأمل.. بأنّ للظلام الثقيل نهاية. وبأنّ مسيرة تقدّم وتحرّر ونهوض شعوبنا – التي تعثّرت وتخرّبت، وتعطّلت تماماً.. من بعد رحيل هذا الزعيم الخالد، الرّاقد في ضمير ملح الأرض من أهل أمّته وشعبه وناسه – سوف نستأنفها قريباً إن شاء الله…
وبعد…
هل ما زال يوجد مَن يملك القدرة.. على الجهر بسؤال: لماذا ناصر باقٍ وحاضر، بل ويبدو خالداً عصيًّا على أن يغيبه الموت والنسيان؟
حسناً.. هيّا نُذكّر أنفسنا بأنّ ثورة 23 يوليو – التي قادها قبل نحو 73 عاماً – لا تزال، على الرَّغم من كل ما جرى، تزداد ألقاً ولمعاناً؛ إذ تبدو مبادؤها النبيلة، ومنجزاتها، وجوهرها التحرّري النهضوي.. أشدّ وضوحاً وأعمق رسوخاً، ليس فقط في ضمير شعب مصر وشعوب أمّتها العربية، وإنّما أيضاً في ضمير الإنسانية جمعاء…
أظنّه كافياً جدًّا، أنّ عبدَ الله الفقير.. كاتب هذه السطور، ينتمي لجيلٍ.. ما كان بمقدور أغلبه أن يعرف الحياة أصلاً، أو تعرفه.. لو لم تكن هذه الثورة؛ وليس الأمر أنّنا تعلّمنا بفضلها، وانفرجت أمامنا الأبواب واسعةً.. لكي يسبح من يشاء منّا في نور العلوم والثقافة والمعرفة، وينهل (مجّاناً تقريباً) من أرقى إنتاج الحضارة والتقدم الإنسانيَيْن… الأمر أعمق وأكبر من ذلك بكثير، فقد كان أهلنا ينتمون لكتلةٍ بشرية.. هي الأغلبية الساحقة من سكان مصر، ومع ذلك ظلّت قروناً طويلةً.. هابطةً وخارج كل حساب، وتُكابد عيشة بؤسٍ وتخلّفٍ وعدم، تحت سطح حياة مجتمعيّة.. لم تكن مباهجها مُتاحةً – عملياً – إلّا لحفنةٍ لا تتجاوز نسبتها نصف واحد في المائة…
ولمّا خرج قائد الثورة وأيقونتها الخالدة.. جمال عبد الناصر، من رحم وقلب هذه الكتلة المحرومة، ظلّ طوال عمره القصير.. ملتزماً بمصالحها، ومشدوداً إليها، وشديد الإخلاص لها؛ كي تصعد وتتحرّر من أغلال البؤس والتخلّف، وأن تمسك بحقوقها الإنسانية كاملةً، فتَنهض وينهض الوطن معها.
… لهذا، أنجز – مع شعبه – منجزاتٍ هائلةً، ظلّت جيلاً بعد جيل.. تحلّق في سماوات الأحلام، فإذا بها تهبط على أرض الواقع بسرعةٍ مدهشة.
فمثلاً – بعد 48 يوماً فقط من نجاح الثورة – كان عبد الناصر ينفّذ أول قانون للإصلاح الزراعي.. بمقتضاه عرفت آلاف أُسَرِ الفلّاحين – «الغلابة» المُعدمين – لأول مرّة – معنى أن تملك شيئاً من أرض وطنٍ.. كانت تولد، وتموت عليها، وترويها بعرقها.. ولا تكاد تنال شيئاً من ثمارها وخيرها.
وإذا وضعنا جانباً، تتويج الكفاح الوطني الطويل.. للخلاص من ربقة الاحتلال الأجنبي، وإنهاء هيمنة المُستعمر.. على مقدّرات البلاد المادية، وقرارها السياسي معاً، فقد توالت بعد ذلك مئات الخطوات والأفعال الثوريّة، وتداعت حلقات سلسلةٍ طويلةٍ جدًّا.. من القوانين والإجراءات، والخطط الاقتصادية والاجتماعية، ومئات المشاريع.. التنموية الزراعية والصناعية والتعليمية والثقافية، التي غيّرت وجه مصر تماماً، وقفزت بها من حضيض التأخّر والضعف والفقر.. إلى رحابة الازدهار والتقدم المضطرد على كلّ صعيد، فأضحى الانتساب لهذا البلد.. معنًى وقيمةً وشرفاً عظيماً إذ تبوّأ المكانة التي يستحقّها.. ليس بين أمّته وفي إقليمه فحسب؛ وإنّما على خريطة الدنيا كلّها، ما أبهر الأصدقاء وحرق قلوب الأعداء من الإمبرياليين والصهاينة.
هذا هو – باختصار – جوهر ثورة جمال عبد الناصر، وتلك هي أسباب روعتها وعظمتها، وسرّ بقائه وبقائها.. فتيةً متألقةً وحيّةً، ومستعصيةً على التبدّد والنسيان.
صحيحٌ.. هي ثورة لم تكتملْ بعد، وواجهت تحدّياتٍ مرعبةً، وتعثّرت في إخفاقات مؤلمة؛ ربّما أهمّها وأخطرها.. أنّها لم تتمكّن من حماية جماهيرها الغفيرة، ومنجزاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الهائلة.. بنظام سياسي ديموقراطي متطوّر، كان من شأنه أن يرفع جاهزيتها ويقوّي مناعتها، ويصدّ عنها الحروب والهجمات المضادّة الرهيبة، التي نجحت في تعطيلها.. بعد رحيل قائدها.
كلّ هذا صحيح وحقيقي، لكن الحقيقة الأكبر، والأكثر نصاعةً الآن.. أنّ ثورة عبد الناصر تعطّلت، لكنها لم تَمُت… ربّما منجزاتها المادية تخرّبت، وتآكل جزء كبير جدّاً منها، غير أنّ مُنجَزَها البشري والإنساني أقوى، وأهم حضوراً الآن.
سلام عليك يا ناصر… سلام عليك «يا عود الفلّ» – كما وصفته ملايين الناس من شعبه وهي تودّعه – إذ شقّت حناجرها.. وهي تهتف بحُرقةٍ في الشوارع: «عبد الناصر يا عود الفلّ… من بعدك سوف نرى الذُلّ»… وقد كان، للأسف الشديد.
نقلاً عن «عروبة 22»