د. نيفين مسعد
يتصدَّر سؤال «ما العمل؟».. معظم التحليلات السياسية التالية على «طوفان الأقصى».. الذي يقترب حثيثاً من إتمام عامه الثاني. ومع أن المبادئ التي ترتكز عليها هذه التحليلات هي مبادئ مستقرة وثابتة، ومدعومة بالقرارات الأممية المتتابعة منذ عام 1948، إلا أن شروع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو – جهاراً نهاراً – في تنفيذ خطة إسرائيل الكبرى.. انطلاقاً من أرض فلسطين، دفع البعض لطرح أفكار – سبق اقتراحها وأحيانّا تطبيقها.. في سياقات إقليمية ودولية مختلفة – منها الاستفتاء على الحق في تقرير المصير. وهي فكرة خطيرة.. تحتاج إلى مناقشة متعمقة، لأنها قد تؤدي إلى عكس المقاصد النبيلة التي تقف من ورائها.
من إحدى الفضائيات الأجنبية – الناطقة باللغة العربية – اقترح محلل سياسي ذو باع طويل في التعامل مع الشأن الفلسطيني، أن تتم مواجهة الفكرة الخبيثة لنتنياهو عن الهجرة الطوعية لسكان قطاع غزة.. عبر الدعوة إلى تنظيم استفتاء حول حق تقرير المصير، بحيث يُطلب فيه من سكان القطاع اختيار أحد بدائل ثلاثة. البديل الأول هو العودة إلى مناطق إقامتهم الأصلية، سواء كانت في شمال القطاع أو وسطه أو بقاء سكان الجنوب حيث هم. والبديل الثاني يتمثل في قبول السكان بالانتقال من مناطقهم الأصلية، إلى المنطقة التي يخصصها لهم الجيش الإسرائيلي.. التي تتمثّل في رفح على الحدود المصرية-الفلسطينية. أما البديل الثالث والأخير.. فهو قبول السكان بالانتقال من غزة إلى الدول التي توافق على استقبالهم فيها؛ سواء كانت دولاً عربية أو غير عربية.
ومن المفهوم، أن القصد من وراء الدعوة لإجراء هذا الاستفتاء هو إثبات كذب الادعاء الإسرائيلي.. عن أن سكان قطاع غزة – لو واتتهم فرصة الخروج منه لفعلوا، وقَطع الطريق على تحميل مصر مسؤولية استمرار معاناة السكان.. بزعم منع دخول المساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع، وبغلق معبر رفح في وجه الراغبين في الخروج والهجرة. إذن هذا هو القصد النبيل من اقتراح الاستفتاء على الحق في تقرير المصير، لكن الأخذ به ينطوي على انحراف قانوني، وكذلك على مخاطر سياسية.
عندما نتأمل السوابق التاريخية – التي تم فيها إعمال الاستفتاء على حق تقرير المصير – سنجد أنها كانت تتعلق بسؤال الشعوب الخاضعة للاحتلال.. عما إذا كانت ترغب في استمرار الوضع على ما هو عليه، أو حصولها على الاستقلال. حدث ذلك مع إريتريا.. عندما انفصلَت عن إثيوبيا بمقتضى الاستفتاء الذي أجرى عام 1993 – في غمار التغيرات الدولية المرتبطة بتفكك الاتحاد السوفيتي،الداعم الرئيسي لنظام مانجستو هايلا مريام في إثيوبيا – وحدث ذلك أيضاً مع جنوب السودان.. الذي انفصل عن دولة السودان، بموجب نتائج استفتاء يناير 2011، في إطار الالتزام باتفاقية السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. هذا مع العلم بأن حصول السودان نفسه على الاستقلال في عام 1956، تم دون إجراء استفتاء؛ فعلى الرغم من أن البرلمان السوداني كان قد أقر اللجوء للاستفتاء بالفعل، إلا أنه عدل عن قراره، وأعلن استقلال البلاد بشكل مباشر في ديسمبر 1955.
والاستطراد الأخير في الحالة السودانية، يلفت الانتباه إلى أن آلية الاستفتاء، ليست هي الآلية المعتمدة بالضرورة.. في إنهاء وضعية الاحتلال، فاستقلال الجمهورية الأيرلندية عن بريطانيا – على سبيل المثال – أتى في إطار اتفاق سياسي.. تالٍ على حرب طاحنة بين الجيش البريطاني والجيش الجمهوري الأيرلندي، ولم يأتِ كنتيجة لإعمال الاستفتاء. ويقل تحبيذ اللجوء لهذه الآلية – بشكل أوضح – عندما يتعلق الأمر بالحركات الانفصالية.. التي تشكلها جماعات قومية أو دينية. فقد ساند الرئيس جمال عبد الناصر حكومة نيچيريا.. ضد حركة انفصال إقليم بيافرا عام 1967، وسمح للطيارين العسكريين المصريين – المسرَّحين لأسباب سياسية – بالتطوع لقيادة الطائرات النيجيرية. وكان الدافع وراء ذلك.. هو الخوف من أن تسري عدوى الانفصال إلى كافة الدول الأفريقية.
وعندما نظّم إقليم كردستان العراقي استفتاء على حق تقرير المصير في سبتمبر 2017، وجاءت النتيجة كاسحة لصالح الانفصال عن العراق.. تعاونَت العوامل الإقليمية والدولية على إجهاض عملية الانفصال الكردي. وفي الشهر نفسه والسنة نفسها، حاول إقليم كتالونيا في إسبانيا.. تنظيم استفتاء على حق تقرير المصير، لكن لم يتم السماح باكتمال هذه المحاولة، وتم إيقاف القائمين عليها.
والخلاصة، أننا – لو عدنا إلى التاريخ – سوف نجد أن الاستفتاء على حق تقرير المصير.. استُخدم في بعض حالات إنهاء الاحتلال وليس كلها. وأنه حيثما أريد به الانحراف عن جوهره، وتوسيعه.. ليشمل الحركات الانفصالية، فإنه ووجه بمعارضة شديدة.. من الداخل والخارج معاً. لكن في جميع الحالات – وعلى اختلاف أنواعها – فإنه لم يحدث أبداً أن تم استفتاء أي شعب على ما إذا كان يريد مغادرة أرضه، وتركها لسلطة الاحتلال أم لا. وفي الدعوة لذلك انحراف أكيد، بتطبيق الحق في تقرير المصير. يضاف إلى ذلك، أن جميع حالات الاستفتاء على حق تقرير المصير – سواء في السودان أو إريتريا أو غيرهما – جرت في أجواء تهدئة، وليس في ذروة حرب إبادة جماعية.. كما هو الحال مع الحرب الإسرائيلية. وأخيراً فإن الاهتمام بدحض مقولة الهجرة «الطوعية»!! لنتنياهو، ينقلنا للنقاش على أرضية خطته العنصرية الكريهة، والأولى بكل المؤمنين بالحق الفلسطيني.. أن ينتقلوا إلى دائرة الفعل لا رد الفعل.
وكمثال، هناك تقرير بالغ الأهمية نشرته صحيفة الجارديان البريطانية.. في الرابع من هذا الشهر، عن المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.. عنوانه كالتالي «وفقاً لقاعدة البيانات العسكرية الإسرائيلية، فإن ربع المعتقلين من غزة فقط محاربون». ومعنى هذا أن ثلاثة أرباع المعتقلين الفلسطينيين من المدنيين، هذا ناهيك عن المعاملة الوحشية داخل سجون الاحتلال. فلماذا إذا لا ننقل الكرة إلى الملعب الإسرائيلي، ونفتح هذا الملف، لنجبر الحكومة اليمينية الإسرائيلية على توضيح ما جاء في الصحيفة، ومواجهة اتهام جديد.. من الاتهامات التي تنهال عليها حتى من الدول الصديقة؟
نقلاً عن «الأهرام»