وجيه وهبة
تُعد وزارة التربية والتعليم من أهم الوزارات منذ إنشائها في القرن التاسع عشر.. تحت اسم «نظارة المعارف». ومهما اختلف المسمَّى، سواء أكانت «نظارة» أو «وزارة»، «معارف» أو «تعليم»، فقد روعي دائماً أن يتولاها قامات وكفاءات مشهود لها. ففي «العهد البائد.. الأول» – وما أكثر عهودنا البائدة – تولاها أناس من عيار «علي مبارك»، «سعد زغلول»، «عدلي يكن»، «أحمد لطفي السيد»، «علي ماهر»، «محمد حسين هيكل»، إلى آخر هذا السلسال العظيم وصولاً إلى «العميد»؛ «طه حسين». ثم كان أن تولاها في «العهد الجديد.. الأول» أيضاً – وما أكثر عهودنا الجديدة – تولاها الصاغ «كمال الدين حسين» لمدة أربعة أعوام، ثم عادت إلى أهل العلم، يتناوبون على شؤونها، ورفع كفاءتها تارة.. إذا كانوا من أهل الاختصاص، أو على التخريب تارة أخرى.. إذا كانوا من أهل «الفهلوة» و«التجارة بالتعليم».
■ منذ أيام أصدر السيد وزير التربية والتعليم «قراراً وزارياً باعتبار ‹التربية الدينية› مادة أساسية، تُدرَّس بكافة الصفوف الدراسية في جميع المراحل التعليمية، ويشترط للنجاح فيها الحصول على 70٪ على الأقل من الدرجة المخصصة، على ألا تحتسب درجاتها ضمن المجموع الكلي، مع تنظيم مسابقات دورية فيها، ومنح المتفوقين فيها مكافآت وحوافز».
وما زالت قرارات الوزير الغريبة تتوالى.. سعياً لإثبات جدارته، ودوره في «تديين» المجال التعليمي المدني، وهو ما لم يفعله العشرات من السادة الوزراء الأجلاء السابقين عليه – والذين لا نعتقد أنه يفوقهم علماً وديناً – وكأنما هو مسؤول عن إيمان التلاميذ، يستمد تقواه وورعه وقوته.. من لقاءاته بفضيلة شيخ الأزهر، ولتتكامل مهمته مع مهمة «كتاتيب» وزير الأوقاف، في انسجام وتناغم.
■ إن التزيد والمبالغة والتسابق في إظهار الورع والتقوى، لهو أمر بائس يدعو إلى الريبة، أو كما يقولون: «اللي على راسه بطحة». فما بالك بمن يبدو وكأن على رأسه وداخل رأسه ومؤهلاته وقراراته، مائة بطحة وسؤال وعلامة استفهام.
«الطريق إلى كانوسا».. صدف يناير
منذ القدم كان هناك تبادل للتملق والمصالح والمواقع والأدوار، بين رجال السلطة الدينية (أو الروحية)، ورجال السلطة الزمنية (الحكم). وكثيراً ما رأينا هيمنة السلطة الدينية على السلطة الزمنية، أو اتحادهما في شخص واحد. وأثناء العصور الوسطى، عصور الظلام في أوروبا، كان للكنيسة الكاثوليكية، ممثلة في «بابا الفاتيكان»، سطوة وهيمنة روحية وفعلية، على شؤون الحكم. وما حدث بين الملك «هنريتش الرابع»؛ «ملك ألمانيا»، وبين «البابا جريجوري السابع»، يبيِّن نوع العلاقة بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، في القرن الحادي عشر الميلادي في أوروبا. حينما حاول الملك «هنريتش» التوسع في ممارسة سلطاته، وتوزيع المناصب الدينية، اصطدم بالسلطة الباباوية، هدده البابا الكاثوليكي الملك «بالحرمان الكنسي»، فسحب «الملك» اعترافه بالبابا، وبصحة انتخابه «بابا». أصدر البابا قراراً بحرمان «الملك» كنسياً.
جَزِعَ «الملك» من عاقبة غضب البابا. لم يخشَ «الملك» من نتيجة هذا الحرمان في الآخرة، بل خاف على عاقبة ذلك على عرشه في الحياة الدنيا. فأمامه معارك تتطلب الاصطفاف ضد منازعيه على السلطة ومعارضيه. خشي من تفرق الأمراء من حوله، إزاء صدور قرار الحرمان، فسوف لن يطيعه أحد وتسقط شرعيته، «فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». و«البابا» هنا ممثل للخالق على الأرض. هرع «الملك» للقاء البابا والحصول على عفوه وغفرانه. جمع بعضاً من ذويه، وبدأ رحلة «التذلل» و«الندم والتوبة» إلى مقر استراحة «البابا» في شمال إيطاليا، قلعة «كانوسا»، قطع الطريق كله حافياً سيراً على الأقدام، ووصل إلى باب «البابا» في 25 يناير (صدفة تاريخية) عام 1077م. ظل بالباب ثلاثة أيام يعاني من برد وثلوج الشتاء حافياً، يرتدي أسمال الرهبان. أخيراً سمح له «البابا» بالدخول، (وكان ذلك يوم 28 يناير، صدفة تاريخية أيضاً) ليركع تحت قدميه سائلاً الغفران والمباركة، وكان له ما أراد.
ركعت «السلطة الزمنية» (الملك) تحت أقدام «السلطة الدينية» (البابا) لتستعيد شرعيتها، بعد أن أظهرت التذلل الواجب لها والخنوع، فكان يوم انتصارها ورفع رايتها، ولكن لحين. إذ تدور الدوائر على البابا، ويفر من روما، وبوازع من «الملك هنريتش» يتم اختيار «بابا» موالٍ له، وبدوره يقوم هذا البابا الجديد بترسيم «هنريتش» «إمبراطوراً» للإمبراطورية الرومانية المقدسة.
إنها مفارقات تاريخية لا تخلو من دلالات رمزية ودروس.. هناك في الغرب، في العصور الوسطى الغابرة.
«الزهاوي» و«البخاري»
يحكي لنا «العقاد» عن حديث طريف جرى بينه وبين الشاعر العراقي الكبير.. «جميل صدقي الزهاوي»، فيقول:
«كان لقائي الأول له في مجلس الآنسة «مي» بمسكنها الأول عند ضريح الشيخ «المغربي»، وهو من مزارات القاهرة في حي من أحيائها التي تسمَّى بالأفرنجية». وقد ساقنا الحديث عن الضريح – المعترض في غير مكانه – إلى الحديث عن الخرافات التي تُروى عن كرامات الأولياء، واستطرد به هذا الحديث إلى ذكرياته عن مجلس الأعيان بالعاصمة التركية.. يوم كان عضواً من أعضائه العرب في عهد السلطان «عبد الحميد». قال: إن قطعة من قطع الأسطول العثماني احترقت، فقام أحد زملائه في المجلس يقترح على الوزارة أن تشتري من كتاب البخاري نسخاً.. بعدد قطع الأسطول، تودعها فيها، أماناً من الحريق وضماناً للسلامة».
فوثب «الزهاوي» ليرد على الزميل، وليقول له: «إن السفن الحربية لا تسير في هذا الزمن بالبخاري، وإنما تسير بالبخار!».
■ لو عاد «الزهاوي» إلى الحياة، لقال: «إن السفن الحربية تسير اليوم بالطاقة النووية، وليس بالبخار ولا بالأحاديث النبوية».
نقلاً عن «المصري اليوم»