(2-6)
عمار علي حسن
تحلو لي الكتابة بين الناس. أقرأ عن كُتَّاب يحتاجون إلى هدوء شديد.. حين يجلسون للكتابة، ومنهم من يفضل سماع الموسيقى، أو الاستغراق في طقس معين.. حين تحين لحظة الإبداع؛ فيخلع نفسه منه، ويهرع إلى القلم والأوراق. بالنسبة لي، فإن موسيقايَ العذبة.. هي أصوات الناس في المقهى والسوق والحدائق.
على المقهى يتصايحون.. وهم يلعبون الدومينو، أو يثرثرون.. جاذبين أطراف حكايات، تمتد من كرة القدم حتى بؤس الأحوال المادية، وتمتد من الحواري.. إلى الإمبراطورية التي تتسيد العالم الآن؛ بالمال والسلاح والإعلام. بينما مقعدي يكاد يلتصق بهم، أو يحيطونه من كل جانب، فإن انهمكتُ في الكتابة، لا أسمع أحداً منهم.
إنها عادة لازمتني – منذ كنت أستذكر دروسي في دكان جدي، كما ذكرتُ سابقاً – ولهذا صاحبتُ الضجيج، روّضتُهُ حتى صار أليفاً بالنسبة لي، منذ مواسم الحصاد ومصاطب السمر في قريتي حتى المقاهي والأسواق.. مروراً بمحطات الحافلات المكتظة بالذاهبين إلى أعمالهم والعائدين منها، وقطارات الدرجة الثالثة، التي تتحول – فوق عجلات تجري – إلى أسواق وموالد، وأفراح ومآتم.
يتأفف كثيرون من الضجيج، لكنني عرفت قيمته أيام كورونا، حين خلت الحديقة التي تطل عليها شقتي.. من أطفال يتصايحون في لعب، وعشاق يتجاذبون الغزل، وأُسر جاءت في نهاية الأسبوع.. بحثاً عن أي بَراح وفُرجة وبهجة.. وسط حياة تمضي شاقة في الشقق الضيقة. أيامها، كنت أنظر إلى الحديقة من الشرفة، وأقول: متى يعود الضجيج الجميل؟
أشنف أذنيَّ بأصوات الناس، وهم يثرثرون ويتبادلون النكات والعتب، يختلفون حتى يقفوا على باب الشجار، ثم تبرد الأعصاب الملتهبة.. فيهدأون، وكأن شيئاً لم يجر. وألتقط من أفواههم عبارات.. أحسبها حافلة بالبلاغة العميقة، التي تأتي عفو الخاطر، أو تنبت على أكُفِّ تجارب الحياة المريرة.
يحلو لي أحياناً الذهاب إلى السوق.. لأتبضع من الخضروات والفاكهة وغيرها. أراقب المساومات بين المشترين والباعة، وألتقط نداءات الواقفين.. خلف عربات الكارو، ورصات الخُضَر والفاكهة على ما يبيعونه، ونداءات سائقي «التوكتوك».. الذين يلتقطون زبائنهم من على حواف الأسواق، وأمام المتاجر الكبرى.
حكايات تزخر بها الحياة، كما زخرت في سنوات خلت، فإن قفلتُ راجعاً في شارع «المبتديان».. أنظر إلى نهره غير الواسع، ورصيفيه الضيقين، وأقول لنفسي: كم من بشرٍ مروا من هنا، وذهبوا حاملين حكاياتهم إلى المقابر.
وأغرق في اللحظة التي لن تدبَّ فيها قدمي هنا، وأسابق الزمن.. حتى أفرغ ما في رأسي وقلبي من حكايات، وأنا أقول لنفسي مرة أخرى: – أنتم الحياة أيها الناس.
تروق لي وجوه بعض شخصيات غير نمطية، أراها في غُدُوِّي ورواحي في الشوارع، فأحسب أن وراء كل منها حكاية يجب أن تُروى. أقترب من أصحابها وأُحَدِّثُهُم، وأطيل الحديث على قدر الاستطاعة. صُحبة قد تُفضي بي إلى الامتلاء بحكاية جديدة عجيبة، تختمر في رأسي، وتملأ وجداني، وتؤرقني طويلاً، ولا أستريح منها.. إلا إذا وجدتها تتسطر على الورق.
وتروق لي أيضاً أماكن الزحام في الأحياء القديمة، فأجد نفسي ماضياً إليها، أدفن جسدي بين الأجساد الساعية في كل اتجاه، أتوقف أمام الحوانيت، وأُطالع البضائع، لكن الحديث الذي تتدفق به الألسنة يغلب النظر، فأنجذب إليه بكل كياني، باحثاً عن شيء جديد من معرفة يجود بها الناس، عن معنى تهديه المواقف.. التي تتتابع بلا هوادة، لتصنع التاريخ الحقيقي، حتى وإن نسيه المؤرخون.
وقد رتّبت لي السياسة والكتابة.. فرصة الدخول إلى بيوتات كثيرة، لأثرياء ومستورين وفقراء، لعلية القوم في المدن ووجهاء الريف، وكذلك من رقيقي الحال والمُعدَمين. كان هذا جيداً بالنسبة لي؛ فالكاتب الذي يسكنني – أو المختص بعلم الاجتماع السياسي – يطلب مني دوماً أن أقف على حال مختلف الطبقات الاجتماعية من قريب، وأن أختزن هذه المعرفة.. لأستدعيها في الكتابة الأدبية والتحليل السياسي، المكتوب والشفاهي، دون الإتيان على ذكر اسم أحد، فكل هذا يكون في الخلفية، لكنه يعطي الكتابة أو الكلام معنى قريباً، إذ يجعله يَحُطُّ على الأرض ماشياً بين الناس، ولا يقف معلقاً في الهواء، مجرداً ومتعالياً ومُستَغلَقاً.. على أفهام من يقرأونه أو يسمعونه.
وسط هذه الفرص، أُتيح لي أن أخالط الكثير من المهن، وكذلك العاطلين عن العمل والأمل، وأرى عن كَثَب المؤمنين بلا حدود، والمُتَفَلِّتين بلا حد، مَنْ يسكن قلوبهم يقين لا يتزعزع، وأولئك الذين يرقصون في ريح الشك والبلبلة.
نقلاً عن «المصري اليوم»