Times of Egypt

مسنون في حياتي

M.Adam
جميل مطر 

جميل مطر 

كثيرون يخطئون إن ظنوا.. أن المسنين أقلية؛ بسمات متشابهة وتصرفات نمطية ومطالب أو رغبات متقاربة وطموحات وتطلعات متدنية أو منعدمة، أو أنهم أقلية في المجتمع بعقول متدهورة الصلاحية، وبقلوب خاشعة أو مستسلمة وصبر سريع النفاد، أو أقلية بقدرات على تحمل الآلام والصدمات العاطفية ولكن ضعفت حتى تآكلت. عندي الأدلة على أنها – في غالب الأحوال – أقلية حكيمة عند اتخاذ قرارات هامة، وأقلية تتحمل بمسؤولية وصلابة.. مصير الخاضعين لها والسائرين في ركابها بالعرف أو بالعقود والقوانين، تتحملها أيضاً بالحب.

وهذا الأخير – وأقصد الحب عند هذه الأقلية – علمت وتعلمت أنه في هذه السن، يكون أنقى جوهرَاً وأطيب حسَاً وأصدق عاطفة.. من حب كل المراحل الأخرى من عمر الإنسان. بعض أدلتي على ما فات من سطور هي:

كنا في زمن جدتي الحاجة جمال.. أحفاداً معدودين وحفيدات عديدات. كنا نتسابق على حجرها كلما سمحت بذلك أو دعتنا إليه. أتذكر جيدَاً أنني كنت أرتاح إليه، أكثر من ارتياحي بوجودي لساعات.. داخل صندوق المشربية الذي كانوا يحشروننا في داخله تخلصاً من شكاوينا وطلباتنا التي لا تنتهي. كبرنا بسرعة ومبكرَاً، ولكنها بقيت دائماً مرحبة بنا.. سواء فوق حجرها أو في حضنها. نضجنا فراحت تغدق علينا بنصائح.. لا تصلح إلا لشباب جاهز للزواج. أتذكر دعاءها المتكرر «روح ربنا يرزقك بالزوجة الصالحة والذرية المطيعة». 

عشت أتذكره دائماً.. في وجودنا مجتمعين، زوجتي وسامر ونسرين وداليا، على مائدة الغداء وفي حفلات أعياد الميلاد والمناسبات العائلية الأخرى. أتذكر أنني عدت لزيارة جدتي بعد أسبوع من زواجي، وكانت قد انتقلت من بيتها الكبير.. لتقيم مع إحدى حفيداتها في شقة صغيرة نسبية. وجدتها في نفس وضعها على سريرها العريض، وقد احتلت أكثر من ثلثيه. سمعتني ونظرت نحونا بعينين متثاقلتين، وقالت بصوت خافت.. «أنا شايفاها جنبك وقلبي حاسس إن ربنا استجاب لدعائي»

***

كتبت مرات عديدة عن لقائي الأول بالشاعر عمر أبو ريشة. كنت أحد مدعويه من الدبلوماسيين العرب على مائدة غداء. رحب بي الترحيب الذي يناسب وافداً جديداً على الجماعة الدبلوماسية العربية في نيودلهي، وباعتباري – وهو ما أطلقت عليه فيما بعد – «مدعو أو ضيف الضرورة»، وترجمتها الشخص اللازم وجوده.. ليكتمل العدد المقرر للمائدة. كثيراً أتذكر أبو ريشة شامخاً وهو يردد قصائده في النسر؛ هذا الطائر المختال بقوته وجماله وكبريائه وعشقه للقمم. أتذكره وهو مُسن. أتذكره في هذه السن.. شامخاً كعهدي به في منتصف عمره. خاف أن يسن قبل أوانه فينحني ظهره، وهو الظهر الذي لم ينحن مرة واحدة لملك أو أمير أو زعيم، ولا حتى للزمن. خاف أن يسن ذات يوم، فلا يقوى على الصعود إلى مكانه عند القمة، وتكون نهايته عند السفوح كنهاية الطيور العادية.

***

عملت مع «الجورنالجي» هيكل، أو كنت قريباً منه.. خلال معظم سنوات منتصف عمره وبعض سنوات العمر المتقدم. مسن آخر في حياتي، لم ينحن لأحد ولا للزمن. كان حريصاً ليبدو أمام الناس – وبخاصة السياسيين – في صحة جيدة. اضطرته الظروف الصحية خلال الفترة الأخيرة من عمره.. أن يستعين بـ«مشاية». غالباً ما كان يتركها خارج غرفة الضيافة، ليدخل للضيوف صحيحاً قوياً.. لا يعتمد إلا على إرادة صلبة، لم يجربها إلا من عمل معه ومن اقترب منه.

كنت شاهداً على هذه الإرادة ومجرباً لها. جربتها عند تأسيس مجلة الكتب: وجهات نظر وتأسيس الشروق ولكنها كانت قبل ذلك في قمة أدائها.. عند كل زيارة من زياراتنا المشتركة لعديد الرؤساء والملوك العرب. رأيته – وهو خارج أي منصب – يجادل ويصحح تاريخ دول، وسير حياة زعماء، ويتحدى تفاصيل المضيف.. بتفاصيل من ذاكرته ومما تلقنه من الكتب والأوراق وبخاصة الوثائق الرسمية، ورأيته مسناً.. لم يثرثر أمامي أو يخطئ في تحديد موقع أو موعد. عاش – كعادته، وكلما التقينا – يتحدى ذاكرتي ويمتحنها؛ فيسألني عن تفاصيل الأثاث في الغرفة التي استقبلنا فيها الرئيس صدام حسين، أو غرفة الرئيس بورقيبة، وتفاصيل ما دار من أحاديث – لم ولن تنشر – مع الملك الحسن وزعماء في الخليج والعقيد القذافي.

***

عملت أيضاً مع محمود رياض – الأمين العام للجامعة العربية – ثم تقابلنا كثيراً عندما قرر الإقدام – وهو مُسن – على كتابة مذكراته. عرفت فيه البساطة والواقعية السياسية في أحلى صورها. واشتغلت مع الأخضر الإبراهيم،ي والوزير السابق نبيل فهمي.. في إعداد تقرير عن إصلاح الميثاق والأمانة العامة للجامعة. لم يكن الأخضر ليروق لتيارات عربية معينة.. لا لسبب، إلا أنه مباشر وعادل وشجاع. على كل حال، أثبت – بكفاءته في عديد المواقع – أنه يستحق اختيار كوفي عنان له.. ضمن مجموعته الصغيرة والمفضلة. جدير بالذكر أن كان في عضويتها الاقتصادي المعروف والمسن جيفري ساكس.. صاحب الرأي السديد في قضيتي أوكرانيا وفلسطين، وفي الخطر الذي تمثله إسرائيل الراهنة، وفي مستقبل يأتي إلينا مترنحاً. 

  ***

مُسن أنا، ومُسنون – بطبيعة الحال – كل أعضاء دفعتي في وزارة الخارجية. أخرجت هذه الدفعة وزيرين للخارجية، وسفراء متميزين وممتازين، وخبراء في الأمم المتحدة ومؤسساتها، وفي إدارة منظمات العمل المدني.. وبخاصة العاملة في مجال الحقوق. نحن – في عرف النظام الاجتماعي – فئة متقاعدة. ولكن في حكم الواقع.. وبحكم التجارب والخبرات الكثيرة – التي اكتسبها أعضاء هذه الدفعة من الدبلوماسيين، وقد عرفها دبلوماسي عتيق بـ «دفعة تأميم القناة« – رفض بعضهم الاستسلام لقواعد الشيخوخة، وراحوا يجربون حظوظهم في مهن جديدة. ما كانوا ليقدموا على هذا التصرف.. لو لم تعدهم الدبلوماسية لهذه المهن.

**

 أكثر المسنين في كل المهن – وبخاصة الدبلوماسية – ثروة مصرية جاهزة.. بالخبرة والوطنية والاستعداد، ليغرف منها ويستعين بها صانع القرار.. في ظرف لعله بين الأصعب والأدق في تاريخ مصر الحديث.

نقلاً عن «الشروق«

شارك هذه المقالة