سمير مرقص
بعد ثلاثة أيام تحل الذكرى السادسة والعشرون لأحد الرموز الكبيرة للفكر المصري الوطني الذي أجمع كل من عرف قدره – من مختلف التيارات الفكرية – على وصفه: «بمدرسة الوطنية المصرية»: القانوني والمؤرخ واللاهوتي.. الأستاذ الدكتور وليم سليمان قلادة (يونيو 1924- سبتمبر 1999)، لم يحظ «قلادة» على هذا الوصف من فراغ، فلقد كان بحق – فكراً وسلوكاً – تجسيداً حياً لكيف يكون المفكر الكبير الحقيقي: ضميراً للوطن، وبوصلة مخلصة ونزيهة.. لمستقبل مواطنيه.
ارتقى «قلادة» تلك المكانة، بفضل التزام صارم.. لم يحد عنه يوماً قط، وانحياز مطلق للخير الوطني العام، وذلك عبر تنقيب دؤوب.. فيما أطلق عليه «مقومات الكيان المصري»: الجغرافيا، والبشر، والمشروع، والدولة، والحضارة، والتعددية الدينية/الثقافية، والتاريخ؛ إذ لا يمكن فهم: مصر والمصريين.. ما لم ندرك المقومات الطبيعية والحضارية لمصر: الوطن من جهة، والنضالات البشرية- التاريخية للمصريين المواطنين من جهة أخرى. مكّن هذا التنقيب الدؤوب مفكرنا الكبير، القدرة على أمرين هما: أولاً: القدرة على صياغة أفكار تتسم بالأصالة والإبداع ما جعلها – حتى يومنا هذا وبعد أكثر من ربع قرن من رحيله – ملهمة ومرجعية. ثانياً: القدرة «الرؤيوية».. تلك القدرة التي تمكن صاحبها من النظر فيما هو أبعد من مجريات الحاضر.. إلى المستقبل البعيد. لذا لم تزل اجتهاداته صالحة للاستعادة دوماً، والاستفادة منها.. مهما بعد زمن إبداعها.
في هذا الإطار، نستعيد اليوم دراسة مبكرة – قدمها قلادة في إحدى الندوات ولم تنشر قط لسبب أو لآخر وتقع في 20 صفحة – كتبت بعد حرب أكتوبر، أي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عنوانها: مصر: التحدي الحضاري للفكرة الصهيونية؛ ينطلق فيها من سؤال بحثي هو: هل يمكن تعميم الفكرة الصهيونية؟، وقبل أن يجيب يقول: «إن قيمة المبدأ أو النظام.. هي في إمكانية الاستفادة به خارج مهده الأول، فمبادئ الثورة الفرنسية،… ظهرت في مكان معين، وقدمها شعب بذاته. ولكن لأنها ذات طابع إنساني.. أعم من الإقليم والشعب، أمكن نقلها وتطبيقها في أقاليم أخرى.. بواسطة باقي الشعوب».
على النقيض، يواصل «قلادة» طرحه: «أما النازية، ففكرة ونظام.. لا يمكن لشعب أن يستفيد منهما، حتى الشعب الألماني نفسه، أصابته الخسائر الجسيمة بسببها…».
ويخلص «قلادة» مما سبق، إلى أن «النموذج الذي يمكن نقله وتعميمه، ويثبت في مهده الأول وفي مكان تطبيقه الجديد صلاحية وفائدة؛ هو النموذج الجدير بالتقدير والرعاية والحماية». في هذا المقام، يلفت «قلادة» نظرنا إلى أن «كل دولة في العالم اليوم – تقريباً – تضم داخل شعبها كثرة من الأجناس والأديان والأيديولوجيات واللغات». ومن ثم تحتاج هذه «الكثرة العالمية إلى فكرة ونموذج يمكن من خلالهما أن تحقق التعايش والتعاون والوحدة.. في مواجهة المشاكل الحادة التي يتعرض لها كل شعب، بل ومشاكل العالم في مجموعه». وعليه، يعيد «قلادة» سؤاله الذي يصفه بـ «المشروع»: من أي نوع تعتبر الفكرة الصهيونية؟
بحسم يجيب «قلادة» بأن «نقطة البداية في الفكر الصهيوني.. هي استحالة التعايش بين اليهود وغيرهم في مجتمع واحد. ومن هنا ضرورة التجمع اليهودي.. بالعودة إلى أرض الوطن التاريخي؛ هكذا يقولون، ليحيا اليهود فيه حياتهم الخاصة المتميزة». ويوجه وليم سليمان قلادة إلى أن استحالة التعايش.. هي استحالة مطلقة لا لبس فيها. ويتتبع مفكرنا الكبير الوجود اليهودي – «المتعايش حياتياً وعبادياً» في منطقتنا عموماً، وفي فلسطين خصوصاً تاريخياً – ويميزهم عن هؤلاء اليهود الذين قدموا تباعاً من أوروبا تحديداً.. في موجات من الهجرة في إطار المخطط الاستعماري للمنطقة (الهجرة الأولى كانت في الفترة من 1882 إلى 1903، والهجرة الثانية كانت في الفترة من 1904 إلى 1914)، فلقد كان هؤلاء المهاجرون من أوروبا يختلفون جذرياً.. عن هؤلاء الذين كانوا يعيشون في مصر وباقي مجتمعات المنطقة، التي كانت تابعة للدولة العثمانية؛ فالوافدون الجدد كانوا متوحدين بالفكرة الصهيونية الإقصائية. تلك الفكرة التي طرحها «هرتزل» – التي تربط «ربطاً عنصرياً بين الأرض والشعب» – كما أوردها في نصه: «الأرض القديمة الجديدة»، مكرساً فكرة تم العمل عليها منذ مطلع القرن العشرين.. خلاصتها «ضمان الحصول على مساحة من الأرض كبيرة، لبسط السيادة عليها.. لنجسد أمتنا اليهودية على وطن يهودي، يعيش فيه شعب يهودي فقط»، وذلك لتأسيس دولة تقوم على النقاء العرقي الديني.
وهو ما عملت عليه الحركة حثيثاً.. في وجود مؤسسها، ثم القيادات التالية، وتشكيلاتها المسلحة.. على مدى عقود – بالتنسيق مع الاستعمار البريطاني بالأساس – حتى تم انتزاع القرار رقم 181 من الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1994، الذي قضى بالتقسيم.. وتأسيس دولة يهودية وأخرى عربية على أرض فلسطين التاريخية. بيد أن الحركة الصهيونية أصرت على تأسيس دولتها القومية ذات اللون الواحد.. من خلال الاستيطان، والحلول كلياً محل السكان الأصليين؛ وذلك بالاحتلال والحصار فالإقصاء. ولعل قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل – الذي صدر قبل سبع سنوات – يعكس ذروة الرحلة الصهيونية للتهويد الجغرافي والسياسي. التهويد الجغرافي الممتد والذي لا حدود له؛ الذي بات يُعرف في الأدبيات بـ «عقيدة التوسع Expansionism Doctrine»؛ حيث لا ينبغي القبول بفرضية وجود حدود تاريخية وطبيعية ثابتة للدولة.
فالحدود تتغير وفق تغير الظروف والمراحل الزمنية المختلفة.. ولو بالقوة، وعلى حساب وجود الآخرين. والتهويد السياسي؛ حيث المواطنة المباشرة هي لليهود فقط. والتهويد الإثني؛ من خلال وحدة اللغة. فهم المصطفون والمختارون.. بصفتهم شعب الله المختار دون غيرهم، ولا يمكن – حسب «قلادة» – بالرجوع إلى المفكر الصهيوني «زفي فربلوفسكي»: «أن تتمخض الخبرة الصهيونية في شأن الأرض دعوة روحية.. خاضعة للجغرافيا، لأنه من المستحيل أن يحقق شعب إسرائيل كماله الروحي، إلا في الأرض المقدسة»، أو صيغة.. الشعب المختار للأرض المقدسة، أو الأرض المقدسة لشعب مختار يعينه.
في مقابل ذلك يطرح وليم سليمان قلادة النموذج الحضاري المصري.. كنقيض للفكرة الصهيونية، من حيث النظرة: للأرض، واللغة، والتعددية (الشعبية/المواطنية)، والنضال الوطني، وسنفصلها في مقال الأسبوع القادم.
نقلاً عن «الأهرام»