Times of Egypt

السلطة والثروة وتسليع العقارات في مصر

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد

الخلاف حول قانون الإيجارات الجديد، وقيام سلطات الدولة بالمتاجرة بالأراضي.. هو مظهر لتطور جديد لم تعرفه مصر على امتداد تاريخها الطويل، وهو تسليع الملكيات العقارية، أي تحويلها – سواء كانت أراضٍ مزروعة أو صحراوية أو أرضاً فضاء أو عقاراً مبنياً – إلى سلعة قابلة للتداول في السوق، خلافاً لما كان سائداً قبل ذلك؛ حيث كان الهدف من حيازة أو تملك أو السيطرة على عقار ما هو الاستفادة من هذه السلعة واستمرارها باعتبارها قيمة في حد ذاتها، ليس لما تجلبه من ثروة فقط، ولكن لما تُضفيه على صاحبها من مكانة اجتماعية. ولذلك وقر في عقول المصريين – سواء كانوا من كبار الملاك أو صغارهم  – أن التخلي عن هذه الملكية عار لا يُعادله عار آخر. ألا تذكرون الأغنية الشهيرة في رائعة عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس – التي تحولت فيلماً.. من أخلد ما أبدعت السينما المصرية «عواد باع أرضه يا اولاد»! بل إن الجديد في الأمر، أن بعض مؤسسات الدولة نفسها.. دخلت في هذه التجارة، وأصبحت الفاعل الرئيسي فيها، وارتبط هذا التحول بالأزمة المالية للحكومة، وبمفهوم من بيدهم الأمر لاقتصاد السوق. فكيف جرى هذا التطور؟ وما أسبابه؟ وما نتائجه؟ وما مخاطره؟

التاريخ المختصر لملكية الأراضي في مصر

تاريخ ملكية الأراضي في مصر طويل، ولا يمكن فصله عن علاقات القوة السياسية فيها؛ فالمساحات الأكبر من الأراضي كانت في يد الدولة وكبار المسؤولين، وتولى الفلاحون الفقراء زراعة هذه المساحات على امتداد العصور.. مقابل دفع ضريبة كانت لها مسميات مختلفة. وربما مارس مُلّاك آخرون.. الإشراف على زراعة هذه الأراضي التي آلت إليهم، ولكن ملكية الأراضي قانوناً.. ظاهرة وصلت إلى مصر متأخرة، عندما بدأ الزحف نحو اندماجها في سوق عالمية، كان ثمن دخوله مديونية هائلة.. تحملها حكام مصر، وكان الخديوي إسماعيل أهم من دفعوا هذا الثمن؛ فأصدر قانون «المقابلة» عام 1871، وبموجبه اعترفت الحكومة بملكية الأراضي.. لأولئك الحائزين، الذين تمكنوا من دفع ضريبة الأراضي للسنوات الست التالية مرة واحدة. صحيح أن الخديوي توفيق ألغاه سنة 1880، وأعاد بعض هذه الأموال لمن كانوا قد دفعوها، ولكن الملكية الخاصة للأراضي تكرست في مصر.. منذ ذلك التاريخ.

ومع أن الأراضي الزراعية تحولت إلى الملكية الخاصة منذ ذلك التاريخ، إلا أن الصلة بين سلطة الدولة وملكية الأراضي لم تنقطع؛ فقسم واسع من هذه الأراضي كان ملكاً للأسرة المالكة، وكان كبار المُلاك الآخرين عماد الأحزاب والحكومات.. التي تشكلت في مصر المستقلة منذ 1922. ولم تنفصم هذه الصلة بين مُلاك الأراضي وحكام مصر، إلا بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعي المتتابعة بعد ثورة 1952؛ التي قضت على ظاهرة الملكيات الكبيرة.. بالقوانين الصادرة في أعوام 1952 و1961 و1969، وانتهت بوضع حد أقصى لملكية الفرد.. لا يتجاوز خمسين فداناً. 

وفضلاً عن انفصام الصلة بين ملكية الأراضي – أو العقارات والنفوذ السياسي – على المستوى المركزي، فإن قيمة امتلاك العقارات كمصدر للثروة.. قد تراجعت كثيراً مع تنوع الاقتصاد، الذي بدأ بخطى حثيثة.. مع بدايات ظهور رأسمالية مصرية نشطة، في قطاعات الصناعة والمال والتجارة الخارجية والنقل. وظهر من بين كبار الأثرياء، من تولدت ثروته من هذه الأنشطة الجديدة، فضلاً عن القيود التي أدخلتها سلطة يوليو.. على قيمة إيجارات الأراضي الزراعية، وتحديد إيجارات المساكن. وتواكب ذلك مع صعود شرائح من الطبقة الوسطى.. الذين تلقوا تعليماً جامعياً، ليكونوا القاعدة الاجتماعية لسلطة يوليو في عهد جمال عبد الناصر، وأصبح التعليم الجامعي.. هو الطريق للصعود الاجتماعي، بل والمشاركة السياسية.. من خلال التنظيم السياسي الواحد.

البدايات الأولى لتسليع الأراضي

خطا الرئيس أنور السادات الخطوات الأولى.. على طريق تسليع الأراضي، ولكن بصورة متواضعة. كان يحلم بامتداد العمران المصري خارج الدلتا، ولذلك شرعت حكومته في بناء مدن صناعية جديدة.. في «السادات» و6« أكتوبر» و«العاشر من رمضان»، بل وفي استصلاح الأراضي على نطاق واسع.. من خلال مشروع الصالحية في شرق الدلتا. وقد أتاحت هذه المشروعات للرأسمالية المصرية.. فرصة امتلاك أراضٍ، لإقامة مشروعات صناعية، أو للتوسع الزراعي. وذلك بشروط متساهلة للغاية؛ فلم يكن الهدف من إتاحة التملك في هذه المشروعات.. زيادة إيرادات الحكومة مباشرة، وإنما تحقيقها لاحقاً.. من خلال الضرائب التي تجنيها بعد نجاح هذه المشروعات، وهي رؤية رشيدة في حد ذاتها.

لكن الخطوة الأكبر – نحو تسليع الأراضي – تمت في عهد الرئيس حسني مبارك. فقد كان إصدار قانون إيجارات الأراضي الزراعية عام 1993.. تحولاً مهماً؛ فمع زيادة سكان الريف، وضيق المساحة المزروعة، ارتفعت – على أرض الواقع – قيمة الأراضي الزراعية، ولذلك تطلع مُلاك الأراضي، الذين كانوا يعهدون للفلاحين بزراعتها.. مقابل إيجار حددته قوانين الإصلاح الزراعي بسبعة أمثال ضريبة زراعية ظلت ثابتة، إلى التحرر من هذه القيود. وتحت ضغوط المؤسسات المالية الدولية ومقدمي المعونات، ومع زيادة نفوذ مُلاك الأراضي.. داخل مؤسسات نظام مبارك الحزبية والتشريعية – خصوصاً على المستوى المحلي – أصدرت الحكومة هذا القانون.. رغم مقاومة الفلاحين من صغار المستأجرين. وفتح ذلك الباب أمام المتاجرة بالأراضي الزراعية، خصوصاً بتحويلها إلى أغراض البناء في الريف والمدن المتوسعة، وأصبحت تلك مشكلة في حد ذاتها.. التهمت قرابة 12% من الأراضي الصالحة للزراعة، بتبويرها أو البناء عليها مباشرة؛ في بلد يعاني أصلاً من ضيق المساحة المزروعة، وارتفاع معدلات النمو السكاني. ولم تنجح جهود الحكومة في وقف هذا التطور.

ومع الأزمة المالية للحكومة – التي استمرت طوال عهد الرئيسين السادات ومبارك – ابتكرت البيروقراطية الحكومية.. على أعلى مستوياتها، فكرة بيع الأراضي الصحراوية للبناء الفاخر؛ سواء في المجتمعات العمرانية الجديدة حول المدن الكبرى.. على امتداد ساحل البحر الأبيض أولاً، ثم البحر الأحمر بعد ذلك. وتحولت مشروعات التنمية الشاملة في الساحل الشمالي – التي كان يُفترض أن تجمع بين التنمية الزراعية والصناعية والخدمية والسياحية – إلى مجرد منتجعات للقلة الموسرة في مصر، لا تُستخدم أكثر من شهرين على الأكثر.. في السنة، ويصبح امتلاك شاليه فيها – كما هو الحال في المنتجعات العمرانية حول المدن الكبرى – دليلاً على المكانة الاجتماعية الحصرية.

القفزة الكبرى في التسليع في السنوات الأخيرة

ثم كانت القفزة الكبرى في مسيرة التسليع.. ما جرى في السنوات الأخيرة؛ تحت تفاقم الأزمة المالية للدولة، ومطالبة صندوق النقد الدولي.. بخفض عجز الموازنة من ناحية، واستغراق الحكومة في إقامة مشروعات طموحة للبنية الأساسية؛ تشمل العاصمة الإدارية، والعاصمة الصيفية، وشبكة واسعة من الطرق السريعة من ناحية أخرى. ومع ضيق الموارد المالية المتاحة لأجهزة الدولة، ومع الفهم الخاطئ للمقصود باقتصاد السوق، تبارت هذه الأجهزة في المتاجرة بما يقع تحت سلطتها من أراضٍ أو عقارات تحت حجج قانونية واهية؛ فلم تسلم الأراضي الصحراوية، ولا الأراضي الفضاء في المدن من هجمة التسليع. 

كما جاء إخفاق الصندوق السيادي.. في توليد موارد للدولة، نتيجة تصفية القطاع العام. وهو ما لم يحدث.. ليتخذ ستاراً لتوفير موارد لأجهزة في الدولة بدعاوى مُتباينة؛ منها تسديد قيمة مباني الوزارات في العاصمة الإدارية، ببيع مبانيها في القاهرة.. لصالح شركة العاصمة الإدارية. أو «استثمار» ما يجب أن يكون فضاءً عاماً.. متاحاً لكل المواطنين، مثل شواطئ البحار والنيل، لصالح مستثمرين مجهولي النوايا والأفكار، وذلك خلافاً لنصوص دستورية.، وممارسات ثابتة.. في الدول التي ابتدعت اقتصاد السوق. وأخيراً جاء إقرار قانون إيجارات المساكن، ليستكمل هذه المسيرة الظافرة لتسليع العقارات.. على حساب أغلبية واسعة من المواطنين، على النقيض مما يدعو له اقتصاد السوق.. من اقتصار الدولة على وضع القواعد الميسرة لنشاط السوق، دون أن تدخل هي فيه.. منتهكة حقوق المواطنين، وخصوصاً محدودي الدخل من بينهم.

خطورة مسيرة التسليع

وتكمن خطورة هذه الخطوات الواسعة.. على طريق تسليع العقار – سواء كان أرضاً زراعية أو صحراوية، أو فضاءً عاماً في المدن – في أنها تُعمق الطبيعة الريعية للاقتصاد المصري، فيصبح معتمداً على أنشطة لا تُوسع من طاقته الإنتاجية، وهي على هذا النحو.. لا تحل أزمته الناجمة عن كونه اقتصاداً لا يولد – من خلال الصادرات – ما يكفي لسد احتياجاته من الواردات الغذائية والدوائية والتكنولوجية. كما أنها تُبعده عن طريق التنمية الصحيحة المتوازنة، التي تقوم على نمو قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية. وهي تستلهم تفسيراً مغلوطاً.. لتعظيم أصول الدولة؛ فأصول الدولة الحقيقية ليست في الأراضي والمباني، وإنما في مواطنيها.. الذين تتعاظم قيمتهم، عندما يتلقون تعليماً وتدريباً عالي المستوى، ويتمتعون بالكرامة.. التي تتحقق مع احترام حقوقهم الأساسية في الحرية والمساواة.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة