Times of Egypt

ترامب.. معاداة الثقافة والكفاءة الناجزة

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص

في مطلع شهر مايو الماضي، أصدر ترامب قراراً بعزل السيدة «كارلا هايدن» (73 عاماً) مديرة مكتبة الكونغرس من مهام عملها – الذي كلفت به في عام 2016، بأغلبية أصوات مجلس الشيوخ الأمريكي. وقد أثار هذا القرار الكثير من الجدل؛ إذ اعتبرته – ليس فقط الجماعة الأكاديمية والثقافية – بل والسياسية أيضاً، الليبرالية والديمقراطية.. في الولايات المتحدة الأمريكية، وخارجها، قراراً متعسفاً بكل المعايير ومناهضاً للثقافة والكفاءة.

وُوجه القرار بنقد شديد، لأنه صدر في سياق حملة ممنهجة.. ضد السيدة «هايدن»؛ أول سيدة من أصل أفريقي.. تتولى مهام المنصب منذ تأسيس المكتبة عام 1800؛ تتهمها فيه الجماعات المحافظة – الداعمة لترامب – باتهامات باطلة.. تحمل افتراءات وادعاءات ضد السيدة، لا تتناسب قط مع ما بذلته من جهد كبير.. كان دوماً محل تقدير، لجعل مكتبة الكونغرس خادمة للثقافة والمعرفة لعموم المواطنين – على اختلافهم – في الولايات المتحدة الأمريكية. بل لمحاصرة جهودها في تطوير خدمات المكتبة، وتوسيع نطاق تأثيرها، وتفعيل دورها في الحياة الأمريكية؛ فلقد انطلقت السيدة «هايدن» – منذ تولت عملها قبل عقد من الزمن تقريباً – من مبدأ حاكم مفاده: أن مكتبة الكونغرس هي مكتبة الشعب. ومن ثم عملت على كل ما من شأنه أن ييسر للمواطن الأمريكي.. تعظيم الاستفادة من المكتبة؛ فجعلتها متاحة ومفتوحة دوماً للجميع.

تعكس المسيرة التعليمية والمهنية للسيدة هايدن.. رؤيتها المبكرة لدور المعرفة عموماً، والكتاب خصوصاً، في حياة الأوطان. وقد تبلورت هذه الرؤية من خلال تجربة ذاتية ثرية؛ تمثلت في: 

أولاً: انخراطها في سن مبكرة بالعمل «كمكتبية».. في نظام المكتبة العامة لولاية شيكاغو (CPL)؛ حيث تدرجت في سلمها الوظيفي. 

ثانياً: دراستها للعلوم السياسية. 

ثالثاً: عملها منسقاً للخدمات المكتبية في متحف شيكاغو للعلوم والصناعة. 

رابعاً: حصولها على درجة الدكتوراه.. التي أهلتها لشغل منصب أستاذة في كلية المكتبات والمعلومات بجامعة بيتسبرج.

وقد مكنها هذا المسار، من الترقي في مناصب مكتبية متعددة في أكثر من ولاية. وإضافة لاحترافيتها العالية في مجال المكتبات والمعلومات، وتطوير تقنيات النظم المكتبية، أولت اهتماماً خاصاً بتيسير تعريف الأطفال بالأدب العالمي. وذلك بتبسيط الأعمال الأدبية.. بلغة يفهمها الأطفال، وتدعيمها برسوم توضيحية. وشمل هذا الجهد أطياف الأدب المتنوعة؛ بدءاً من الروائع الكلاسيكية المعترف بها في الأدب العالمي، وكتب الصور، والقصص السهلة القراءة المكتوبة خصيصاً للأطفال، وصولاً إلى الحكايات الخيالية، وأغاني المهد، والقصص الرمزية، والأغاني الشعبية، وغيرها من المواد التي نقلت شفوياً عبر الزمن. 

وفي عام 2003، وبعد رحلة مهنية وعلمية ناجحة ومثمرة، توجت هايدن بتوليها رئاسة رابطة المكتبة الأمريكية. وقد كان هذا التتويج.. المحطة المؤهلة لها، لكي تحظى بأمانة مكتبة الكونغرس في 2016 (تأسست عام 1800 بقرار من الرئيس الثاني لأمريكا جون آدامز 1797-1801 وذلك لتوفير المعرفة اللازمة للمشرعين الأمريكيين. ولكنها وبمرور الوقت مدت المكتبة خدماتها لتشمل المواطنين، كما توسعت لتصبح المكتبة الأكبر في العالم؛ إذ تضم ملايين الكتب والمخطوطات، والخرائط، والمواد المرئية والصوتية والرقمية).

إذن، نحن أمام حالة تعسف واضحة من قبل الإدارة الترامبية.. ضد سيدة كفء في عملها، نجحت في إنجاز: 

أولاً: إخضاع المكتبة لعملية رقمنة مستدامة. 

ثانياً: توفير مصادر المعرفة/الثقافة عبر التقنيات الرقمية خاصة للمناطق الفقيرة والمحرومة والريفية. 

ثالثاً: ابتكار العديد من المبادرات الثقافية/المعرفية الرقمية الميدانية. لذا كانت خلال الأعوام التسعة السابقة (من 2016 وإلى اليوم).. محلاً للثناء والتقدير والإشادة. 

ويبدو التعسف واضحاً، بسبب أن فترة تعيينها تنتهي العام القادم 2026. وكان يمكن للإدارة الترامبية.. أن تنتظر حتى ينتهي التعاقد. وعليه، قوبل القرار – الإقالة التعسفية – باستهجان، بل اعتبره بعض أعضاء الكونغرس «ضربة للثقافة والمعرفة».

ويعزو بعض المراقبين ما جرى، إلى كونه إجراءً ثأرياً «ترامبياً».. لجأت إليه الإدارة الحالية عن قصد وتعمد، على خلفية أن «هايدن» كانت قد فتحت – عام 2022 وفي الذكرى السنوية الأولى للهجوم على مبنى الكابيتول بواشنطن – نقاشاً علمياً موسعاً.. مع مجموعة من الأكاديميين، بهدف بحث سبل توثيق ذلك الحدث التاريخي المؤلم، وتدوينه.. وفق منهج علمي، يضمن حفظ الحقائق في الذاكرة التاريخية الوطنية من جهة. ويدعم في الوقت نفسه قيمة الانحياز للديمقراطية، والالتزام الوطني المؤسسي والشعبي بها ولها من جهة أخرى. 

(ونذكر بأن واقعة الهجوم على الكابيتول، هي تلك التي قام فيها من وصفوا بـ «مثيري الشغب».. من أنصار ترامب، بالهجوم على مبنى الكابيتول.. للضغط – باستخدام العنف المسلح – من أجل وقف الاعتراف بنتائج الانتخابات، التي جاءت وقتئذ لمصلحة بايدن.. وذلك باستخدام العنف، ومنع انعقاد الجلسة المشتركة للغرفتين التشريعيتين للكونغرس، التي سيتم الاعتراف فيها بنتيجة الانتخابات).

دفع القرار التعسفي – ذو الطابع «الثأري الترامبي» – العديد من أعضاء الجماعات الثقافية والأكاديمية والفنية والصحفية والسياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إعلان تضامنهم مع كلارا هايدن، ورفض تحويل المؤسسات الثقافية.. إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية. لم يقف الأمر عند الحدود الأمريكية، بل كان لهذا القرار «الترامبي التعسفي الثأري» صدى في الأوساط الثقافية والأكاديمية الغربية. ومن أهم ما يمكن رصده في هذا المقام، ما كتبه المكتبي والوثائقي الشهير بجامعة أوكسفورد ريتشارد أوفندين (61 عاماً) صاحب المؤلف الشهير: محرقة الكتب: تاريخ التدمير المتعمد للمعرفة Burning The books: A history of the Deliberate Destruction of Knowledge؛ في دورية الأوبزرفر البريطانية الشهيرة (13 يوليو الماضي).. تحت عنوان: حرب ترامب على الكتب Trump’s War on Books؛ التي اعتبر ما تعرضت له كلارا هايدن – من قبل حركة Maga شديدة المحافظة والمساندة لترامب والمعادية للثقافة ورموزها – بمثابة هجوماً تحريضاً على المكتبات وأمناء المكتبات، ستكون له تداعيات سلبية في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.

وبعد، فإن هذا القرار، يعد حلقة من سلسلة القرارات الخاطئة.. التي أصر ترامب على اتخاذها في فترة رئاسته الأولى، ويواصل إصراره عليها.. في السنة الأولى من فترة رئاسته الثانية.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة