محمد أبوالغار
أمضى نجيب محفوظ 37 عاماً – منذ تخرجه عام 1934 وحتى خروجه على المعاش عام 1971 – موظفاً حكومياً شديد الالتزام بأعباء الوظيفة.. في ثلاثة أماكن، هي: موظف في جامعة القاهرة، ثم وزارة الأوقاف، ثم وزارة الإرشاد القومي.
وإنه لأمر مثير، أن تتعرَّف على حياة الموظف الحكومي الملتزم نجيب محفوظ، وحياته كطالب في المدارس، ثم الجامعة.. بعيداً عن نبوغه الأدبي. استطاع الصحفي اللامع طارق الطاهر.. أن يطلع على ملف محفوظ الوظيفي من 300 صفحة، ونشره في كتاب أصدرته الهيئة العامة بعنوان: «نجيب محفوظ بختم النسر».
الملف يحوي شهادة الميلاد بتاريخ 11 ديسمبر 1911، ثم شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة الحسينية عام 1925، وشهادة إتمام الدراسة الثانوية الجزء الأول عام 1928، والجزء الثاني عام 1930.. من مدرسة فؤاد الأول الثانوية. التحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وذلك لأنه وضع برنامجاً للتثقيف الذاتي.. في بداية حياته، وقرأ الكتب السماوية، وكذلك تاريخ البوذية والكتابات الصوفية.
ويذكر الكتاب سؤال طه حسين لمحفوظ – أثناء اختباره لدخول كلية الآداب – عن سبب اختياره للفلسفة، فأجاب لرغبته في معرفة أسرار الكون، وأسرار الوجود. وكانت الورقة الرابعة في الملف – في عام 1934 – هي ليسانس في الفلسفة. وأثناء الدراسة.. دخل معهد الموسيقى العربية لتعلم العزف، ولكنه لم يكمل الدراسة به، وبدأ دراسة الماجستير مع أستاذه د. مصطفى عبد الرازق.. عن فلسفة الجمال في الإسلام، ولكنه لم يكمل.. وتفرغ للأدب.
وكانت هناك بعثتان لفرنسا، حصل على الأولى أول الدفعة.. وكان قبطياً، ورفضت السراي سفر الثاني نجيب محفوظ، لأنهم اعتقدوا أنه قبطي أيضاً، وقالوا يكفي قبطي واحد، وكان ذلك بسبب ارتباط الأقباط بحزب الوفد.
وكان تعيينه كاتباً في جامعة القاهرة.. بواسطة أحد أقاربه، كان يعرف أحد الباشوات، وجميع أوراق التقديم والكشف الطبي وموافقة الجيش والبحرية.. كلها في الملف. انتقل إلى وزارة الأوقاف عام 1939، بمرتب 12 جنيهاً.. بتوصية وزير الأوقاف الشيخ مصطفى عبد الرازق – الذي كانت تربطه بمحفوظ علاقة التلميذ بأستاذه – وكان عبد الرازق من قادة الأحرار الدستوريين، ويعرف أن محفوظ وفدي صميم، غير أن ذلك لم يؤثر على علاقتهما، وعيَّنه سكرتيراً برلمانياً.
ترقَّى نجيب محفوظ للدرجة الرابعة، وقام الجميع بتهنئته، ووقع الوزير القرار، ولكن في اليوم التالي.. تم إعطاء الوظيفة لموظف آخر، بناءً على توصية القصر الملكي. ورفع محفوظ قضية، وكسبها بعد سنوات. وفي ملفه توجد شكوى.. قُدمت في حق نجيب محفوظ، تم التحقيق في ذمته المالية، وثبت أنه لا يملك أرضاً ولا عقاراً ولا أسهماً، وإنما فقط مبلغ 600 جنيه.. بعد 18 عاماً من العمل الحكومي، وكتابة السيناريوهات.
في ملفه، تحقيق أُجري معه.. بسبب رواية فضيحة في القاهرة، وكان المحقق وكيل وزارة الأوقاف.. شقيق طه حسين، وسأله: لماذا تكتب عن الباشوات؟ اكتب عن الحب أحسن. وتم حفظ التحقيق. وقال إنه بدأ يكسب من الأدب.. عندما توالت طبعات رواياته حتى 1965، حين بدأ تزوير الكتب فتوقف المكسب.
ملف نجيب محفوظ، يحتوي على طلب إجازة اعتيادية كل عام.. بانتظام شديد. وعند وفاة والده، لم يذهب إلى العمل لمدة 3 أيام، وطلب إجازة اعتيادية عند عودته. عنوان محفوظ تغيَّر.. من حي الحسين إلى حي العباسية، حين اشترى أبوه منزلاً بمبلغ ألف جنيه، اضطروا لبيعه بعد وفاة الوالد. تزوج عام 1954، وأخفى خبر زواجه فترة طويلة عن الجميع، وكان ذلك في الفترة التي توقف فيها عن الكتابة الأدبية، وكان يكتب السيناريو للسينما. وفي ملف التأمينات – في 1961 -كتب أنه متزوج، وكتب اسم الزوجة والبنتين.
الغريب، أن مرتب محفوظ حين نقل للأوقاف كان 34 جنيهاً في عام 1942، ثم انخفض مرتبه إلى 16 جنيهاً عام 1945.. دون سبب واضح، ثم ارتفع المرتب إلى 31 جنيهاً، وفي عام 1950 ينخفض المرتب إلى 13 جنيهاً، وفي 1951 يرتفع إلى 35، وفي 1955 يصبح وكيل مؤسسة القاهرة.. بمرتب 41 جنيهاً. وعند تغيير الوزارة، اختار مكتبة الغورية للعمل، حيث تفرغ للقراءة العميقة، والتجول في حيه القديم.
وانتقل إلى وزارة الثقافة، حيث أنشأ فتحي رضوان مصلحة الفنون، واختار يحيى حقي مديراً لها ونجيب محفوظ مساعداً بمرتب 51 جنيهاً. وعيَّنه ثروت عكاشة وزير الثقافة مديراً للرقابة على السينما. وكانت خسارة مادية، لأنه قرر التوقف عن كتابة السيناريو. وعندما اجتمع مع الرقباء قال لهم: كن صديقاً للفن لا عدواً له، وأن الأصل في الفنون هو الإباحة. وفي مجلس الوزراء، شن حسن عباس زكي وزير الاقتصاد.. حملة عنيفة على ثروت عكاشة لأنه أسند الرقابة لرجل متهم في عقيدته الدينية، وتجنباً للمشاكل.. طلب منه ثروت عكاشة ترك الرقابة، والانتقال إلى مؤسسة دعم السينما بعد عام واحد.
ويحكي محفوظ عن لقائه بصلاح نصر.. بدون أن يعلم شخصيته – في دار المخابرات المصرية – عندما دُعي لمناقشة فيلم اقترحه ثروت عكاشة.. عن دور المخابرات. وسألوه عن «أولاد حارتنا»، لمعرفة رأيه في الدين. وعندما سُئل عن المخرج (الذي تأتمنه على إخراج كتاب لك) قال صلاح أبو سيف، هنري بركات، عز الدين ذو الفقار، يوسف شاهين وتوفيق صالح. وعيَّنه عبد الناصر رئيس مجلس إدارة المؤسسة المصرية العامة للسينما بأجر 2000 جنيه سنوياً، وبدل تمثيل 2000 جنيه.
وبعد 6 شهور، اعترض ثروت عكاشة على أدائه وخطته، وحاول نجيب تغيير البرنامج، وجاءت كارثة 1967.. لينتهي كل شيء، ويترك محفوظ وظيفته، ويعمل مستشاراً للوزير.. حتى بلوغه الستين.
حصل نجيب محفوظ على جائزة قوت القلوب الدمرداشية – مناصفة مع باكثير – عام 1940، وتلقى 20 جنيهاً. وجائزة المجمع اللغوي.. وقيمتها 100 جنيه عام 1941، وفي عام 1944 رفضت نفس الجائزة رواية «السراب».. لجنوحها الجنسي، ورواية عادل كامل «مليم أكبر».. لجنوحها اليساري.
وأول من كتب عن محفوظ، كان سيد قطب.. الذي تحمَّس لرواية كفاح طيبة. وطبعاً حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1968، وحصل على جائزة النيل في الآداب عام 1999، حين كان اسمها جائزة مبارك، وحصل على نوبل عام 1988.
قوم يا مصري مصر دائماً بتناديك.
نقلاً عن «المصري اليوم»