Times of Egypt

عَجْزُ الكلام.. قصيدة في رثاء أمي

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

في اليوم الأربعين لرحيلها

قال لي زائرو قبرها:

ـ اكتب عنها كتابًا

كنتُ أتيتُ على ذكرها في سيرتي

تسللت إلى قصصي ورواياتي

سواء قصدت هذا أم كنت في غفلة

سكنت عجائز قريتي

التي أوردتها آلات وأدوات أكلها الزمن

وفي الحنين إلى جوارها

كلما قست المدينة

ففاضت أحزاني الدفينة

استدعيت كل هذا وعيناي تصافحان وجوههم

أطلقت ابتسامة من جوف وجعي، وقلت:

ـ الأم تليق بها قصيدة

هزوا رؤوسهم صامتين

إلا واحد منهم، وكان صبيًا، قال:

ـ لا يذكر المرء أمه إلا وفاض الشعر

دُست على يده في امتنان، وقلت له:

ـ صدقت يا فتى

في رحلة العودة حاولت الإمساك بطرف القصيدة

أيكون عن سكينتي في الرحم اللين الدافئ؟

أم عن الحبل السري الذي سرق طعامها ومدَّه إلى نطفة سابحة،

إلى علقة صارت مضغة ثم اكتست عظامًا؟

أم أطراف أصابعها وهي تأخذني من يد القابلة؟

لكني وجدت نفسي أقول:

لتكن عن أول ضمَّة غارقة في الفرح والامتنان

أو طعم، أوَّل رشفة لبن تسللت إلى جوفي

أو أول لقمة من طعام أبي مدَّتها إلى فمي

لكنَّ صوتًا جاء من الزمن البعيد

فقلت وأنا أقبض على الحروف:

ليكن عن تصفيقها وهديلها وهي تنتظرني أبلغ مكانها حبوًا

ويدها التي احتضنت يدي

وهي تعلمني العرج الوئيد

ارتفع الصوت أكثر، فقلت:

ـ لا، لا، لأبدأ من أول مرة أسمع دعاءها:

«ربنا يحبِّب فيك الرب والعبد،

ويوسَّع رزقك،

ويعمي عنك عين الظالم».

وقلت في فرح:

ـ لتكن هذه هي البداية

فهذا كان في حياتي حرز الحماية

لم يكن تميمة تثقل رقبتي وصدري

إنما كلمات تعلو فوق السحاب

لتصل السماء بلا حجاب

خفيفة نطق به لسانها

ثقيلة هناك عند سدرة المنتهى

وحين تذكرت غيابها الأبدي، قلت:

ـ لتكن البداية من حنينها حين يسرقني الرحيل

فأغيب في السفر الطويل

دفاعها عني راجية أبي الغاضب

وقوفها بيننا لتأخذ عني عقابه

لا يشغلها أنه كان على حق

ولا كل دفوعه اللاهثة

كي يثبت صوابه

ويشكو لها حمله الثقيل

أسندت على كفي رأسي المثقل بالأسى

وتذكرت حجرها

حين كنت أغفو عليه

وألقي همومي إليه

في ليلة تعثر فجرها

وقلت:

ـ هنا منبت القصيدة العنيدة

وانهمرت الأسئلة شوكًا:

أصار حِجْرَها الآن وسادة للملائكة؟

أم لكائنات عمياء تلتهم الجثة الوحيدة؟

وفاض السؤال:

ـ أتهش كلماتي عنها ديدان؟

أتُبقي حِجْرَها طريًا مثلما كان؟

هل أشعاري مهما ارتقت بلاغة تعيدها إليَّ؟

بماذا يفيدها تمجيدي

وروحها الآن تنعم في الخلود؟

وانطرحت أمامها إجابة السؤال العصي

عن الوجود

بينما أنا عاجز هنا على الأرض

بين أناس يسكن عيونهم الأسى

يمدون إليَّ يد العزاء

لا يفهمون مثلي ما جرى لها

ما سيجري لي ولهم

في عالم البقاء

وحين فاض الشجن

وهام في صدري النشيج

راح مني كل الكلام

ولاح طيفها

فألقيت عليه السلام

وقلت:

أؤجِّل أشعاري إلى السكرة الأخيرة

فعلى حافة أيامي المريرة

سأراها تُهدي إليَّ يدًا مديدة

تأخذني إلى أجمل قصيدة.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة