Times of Egypt

النكبة الثانية 

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

أحمد يوسف أحمد

بدأت ألاحظ في الآونة الأخيرة.. اعتماد مصطلح «النكبة الثانية»، للتعبير عن تداعيات ما جرى في غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وذلك من قبَل كتاب ومراكز بحثية ومؤسسات مجتمع مدني.. لا شك في إيمانهم بعدالة القضية الفلسطينية. والمنطق وراء اعتماد هذا المصطلح.. هو كم القتل والتدمير – الذي نجم عن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة والضفة – فضلاً عن الظروف اللاإنسانية التي تفوق التصور.. لحياة الناجين من القتل، ناهيك بمخططات التهجير.. التي أدت المعارضة المصرية الصلبة لها – بظهير عربي وإسلامي – إلى عرقلتها. وإن كانت هناك مؤشرات.. على تواصل التخطيط لتنفيذها، في أول فرصة ممكنة.

 وأحاول في هذه المقالة، أن أدفع بأن مصطلح «النكبة الثانية».. غير دقيق، أو على الأقل.. غير كافٍ لتكييف ما جرى. وأن المشابهة بين نكبة 1948 وتداعيات 7 أكتوبر 2023، ترد عليها ملاحظات مهمة.. ألخِّصها في اثنتين رئيسيتين. 

أما الملاحظة الأولى، فهي أنه بافتراض أن ما يجري الآن نكبة، فإنها لن تكون الثانية.. وإنما الثالثة، وإلا فبماذا نسمي الانتصار الإسرائيلي في عدوان يونيو 1967؟ فإذا كانت إسرائيل قد أُسست في 1948.. على أكثر من نصف أرض فلسطين، فإنها استكملت احتلالها بعدوان 1967، وهو ما سمح لها بالتغوُّل في الاستيطان الصهيوني للضفة.. الذي تحاول اليوم ترجمته إلى سيادة كاملة عليها. كما أن استيلاء إسرائيل على الضفة الغربية، أدى إلى النزوح منها للضفة الشرقية. وعدم سماح إسرائيل بعودة من كانوا موجودين فيها.. أيام القتال، للضفة الغربية، بإجمالي ما يزيد على ربع مليون فلسطيني. وبالتالي فإن أركان «النكبة» متوافرة.. في تداعيات يونيو 1967.

 ولقد تعمدت الإشارة لهزيمة 1967، لأنها تُذكِّرنا بخطأ الاعتماد على اللقطات الساكنة؛ فقد كان المشهد العربي والفلسطيني آنذاك، يوحي بأن حقبة ممتدة من الاحتلال الإسرائيلي.. سوف تستمر دون أدنى عناء. بينما بدأت علامات المقاومة المصرية الجادة.. منذ بداية الشهر التالي للهزيمة، وتواصلت وتصاعدت في حرب الاستنزاف، التي كبَّدت إسرائيل خسائر فادحة، وصولاً إلى حرب أكتوبر المجيدة 1973. ومن ناحية ثانية، تصاعدت المقاومة الفلسطينية وتنوعت أساليبها، وصولاً إلى إجبار إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة 2005، وما جرى فيها لاحقاً من أعمال مقاومة.. بلغت ذروتها بـ «طوفان الأقصى».

 ومن هنا، من الأهمية بمكان.. أن يكون للتاريخ مكانه المستحق، في التنبؤ بالمستقبل. ولعلنا نذكر أيضاً.. المقولة الساذجة لـ«نهاية التاريخ»، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. 

أما الملاحظة الثانية – التي تتصل مباشرة بالأحداث الجارية – فهي أنه.. بالإضافة للخسائر البشرية والمادية الهائلة، وما كشفت عنه الأحداث.. من عجز فادح للنظام العربي، فإن هناك مكاسب.. أو على الأقل تحولات، يمكن وصفها – ولو بحذر – بأنها استراتيجية؛ وإلا فبماذا نسمي التحولات العميقة في الرأي العام العالمي.. لمصلحة القضية الفلسطينية، كنتيجة منطقية للإجرام الإسرائيلي؟ 

وقد شهدت مدينة سيدني (في أستراليا) يوم 3 أغسطس الحالي.. مظاهرة غير مسبوقة، تأييداً للحق الفلسطيني، وقبلها عشرات المدن والجامعات، فضلاً عن مواقف عديد من المنظمات الحقوقية المضادة للسلوك الإسرائيلي، والداعمة للحق الفلسطيني، وهي المواقف ذاتها التي تم التعبير عنها في تجمعات فنية وثقافية ورياضية. وهل كان أحد يتخيل أن يصبح شعار «الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي» – الذي نطق به المغني بوب فيلين.. في مهرجان «جلاستونبري».. للموسيقى في انجلترا – اتجاهاً يغزو التجمعات الجماهيرية وجدران المدن الأوروبية. فلا نستطيع فصل هذه الاتجاهات المتصاعدة – المؤيدة للحق الفلسطيني – عن «التسونامي» الدبلوماسي، الذي تمثل في تصاعد اتجاه الدول الأوروبية.. إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية؛ ابتداءً من إعلان الرئيس الفرنسي.. فرئيس الوزراء البريطاني والبرتغالي، وصولاً إلى كندا ومالطا، بل وتلميحات من ألمانيا. وما سببه هذا التصاعد من إرباك دبلوماسي لإسرائيل، وحديث عن عجز سفاراتها.. عن فعل أي شيء في مواجهة هذا المد، والخشية المتزايدة للإسرائيليين من سوء معاملتهم.. لدى سفرهم للخارج. والمؤشرات عديدة بهذا الخصوص، وهو ما ينقلنا لتحولات.. قد تكون الأهم داخل إسرائيل نفسها. 

والأصل في المجتمع الإسرائيلي.. أنه متطرف، وفي حكومته الحالية.. أنها الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل. ومع ذلك، فإنه لا يمكن تجاهل تداعيات الحرب في غزة.. على الداخل الإسرائيلي. 

ببساطة، لأنه من الناحية الموضوعية.. فإن نتنياهو وحكومته فشلوا – حتى الآن – في تحقيق أهدافهم المعلنة، المتمثلة في.. القضاء على حماس، واسترداد الأسرى. وهي أهداف تكرّرت على لسان نتنياهو قرابة سنتين، وهو مازال يرددها كالببغاء، ويتحدث عن خطط جديدة.. لتحقيق النصر المفقود، ويغير وزير دفاعه ورئيس أركانه.. دون جدوى. ولذلك، بدأ التململ.. ليس اقتناعاً بعدالة الحق الفلسطيني، وإنما انعكاسا لطول أمد الحرب وتداعياتها.. التي تجاوزت حتى الآن ضعف مدة حرب التأسيس في 1948، ومن هنا بدأت المطالبات بإنهاء الحرب تتصاعد، كما يُظهر ذلك تطور استطلاعات الرأي العام. 

ومن الأهمية بمكان، أن عديداً من القيادات الأمنية السابقة – التي شغلت مواقع رفيعة في المؤسستين العسكرية والأمنية – باتت تتحدث عن عقم النهج الحالي لنتنياهو، وكيف أنه لا يقود إسرائيل إلى النصر، وإنما لحرب أبدية، وعزلة دولية متزايدة. غير أن الأهم بالتأكيد أن بعض القيادات السياسية العليا السابقة، بات يتحدث صراحة.. عن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، وكيف أنها تخص الفلسطينيين، ويجب أن تكون جزءاً من دولة فلسطينية. 

وأخيراً، تشهد منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية.. بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.. بحق سكان غزة، وذلك في تقرير مطول (79 صفحة)، صدر أواخر الشهر الماضي. وبالتأكيد، سوف يكون لكل هذه التطورات.. تأثيراتها على القرارات الإسرائيلية القادمة، وبالذات حال استمرار صمود المقاومة.

ولكل ما سبق، أعتقد أن وصف ما جرى في غزة منذ 7 أكتوبر 2023.. بأنه مجرد نكبة، يفتقر إلى العلمية. ويحزنني الانطباع بأنه وصف متعمد من البعض.. لإدانة النهج المقاوم لإسرائيل، مع أن تداعيات النهج المهادن لها.. كانت، ولا تزال.. كارثية.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة