عبدالله عبدالسلام
لست ناقداً أدبياً، وأتردد كثيراً في الكتابة عن أعمال إبداعية.. من باب «رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه». لكني ممن يعتقدون أن الروايات الأدبية – خاصة للمبدعين الكبار – ليست مجرد قصص ممتعة، يأخذك فيها المؤلف إلى عالم من صنعه؛ قد يكون له علاقة بالواقع أو مجرد خيال. هذه الأعمال تعبر عن رؤية الكاتب لواقعه ومجتمعه وعالمه، ولا تندرج تحت نظرية «الفن للفن»، التي تنظر للإبداع عموماً.. على أنه مجرد من أي ملابسات فكرية أو فلسفية.
ولأن من حق القارئ، أن يحاول تفسير العمل.. بعيداً عن الانطباع المباشر؛ معتمداً على خلفيته الاجتماعية والتعليمية والثقافية، فقد قرأت أحدث أعمال الأديب الكبير محمد سلماوي «زهرة النار».. بهذه الروح. لم أنظر إليها فقط، باعتبارها «قصة حب عاصفة».. بين سيدة الأعمال الناضجة «عالية» و«خالد السروي».. الشاب الطموح ابن الطبقة الوسطى، والظروف التي حالت دون أن تتكلل بالنهاية السعيدة.
بل نظرت إليها.. على أنها تصوير لمصر الحديثة؛ التي كلما حاولت أن ترتفع، وتتخطى عثراتها، جاء من يُعيدها إلى وضعها المُحبط السابق. الرواية أخذت بتلابيبي، وعُدت إليها أكثر من مرة.. إعجاباً بحبكتها وسلاسة أسلوبها وأحداثها المثيرة، والثقافة الرفيعة.. في مجال السياسة والفن التشكيلي، ورموزه ومقتنياته. وكذلك ثقافة الطهي، التي ينثرها المؤلف على صفحات عمله.. برقيّ وتحضر كبيرين.
لكني تأملت كثيراً في مصائر الأبطال المأساوية، ما إن تبدأ «عالية».. الخروج من أحزانها، بعد وفاة زوجها. وجدت الشخص الذي حلمت به.. كي تعود إلى الحياة، التي كانت اعتقدت أنها وصلت إلى نهايتها.
وما إن عثر خالد على توأم روحه.. رغم كل الفوارق العمرية والطبقية بينهما، حتى يتدخل القدر والبشر لوضع نهاية حزينة لقصة الحب تلك. الأمر لا يتوقف عند الأفراد فقط.. بل حركة المجتمع. محاولات الشباب الارتقاء بالبلد، والمساهمة في تغييره للأفضل، تتكسر في مواجهة رفض السلطة، وتعاملها مع المصريين كرعايا.. وليس مواطنين.
القارئ يحتار كثيراً.. بشأن زمن الأحداث. هناك إشارات إلى السبعينيات والثمانينيات، والزمن الراهن. الروائي الكبير، أشار إلى ذلك في تصديره للرواية. هي ليست تاريخية، والأحداث ليس مقصوداً بها التأريخ.. في حقبة محددة، لكنها – في مجموعها – تشكل المناخ العام للرواية، والخلفية المحيطة بأحداثها. الزمن الفعلي يتخطى الأزمنة الواردة بها، ليعبر عن واقع دائم ومستمر.
للوهلة الأولى، اعتقدت أن أبطال الرواية، والمجتمع الذي يعيشون فيه، يشبهون البطل الإغريقي الأسطوري سيزيف، الذي تحايل على إله الموت، فكبَّله بالأصفاد، لتحقيق الخلود للبشر، لكن الآلهة حكمت عليه.. بأن يقضي حياة أبدية.. يقوم فيها بدحرجة صخرة صعوداً للجبل، إلا أنها تعود للسقوط، فيحاول مراراً وتكراراً بلا نهاية. لكن المؤلف أكثر تفاؤلاً.
إنهم مثل «زهرة النار» العملاقة – التي صورها فنان مجهول.. في لوحة أثيرة – تحتفظ بها «عالية».
بعد انقطاع المطر، تنضب الزهرة وتجف تماماً، وقد تظل على هذه الحال.. سنين طويلة في انتظار النيران التي تجتاح الغابات، فينتفض كيانها وتعود للحياة.
مصر والمصريون قد يمرون بأوقات نضوب وجفاف وتراجع، لكنهم يعودون لصنع الحضارة، عندما تتشبع نفوسهم وواقعهم.. بالحرية والعدالة والأمل في الغد.
نقلاً عن «المصري اليوم»