(1 – 2)
عمار علي حسن
رغم ثورة الاتصالات.. التي حوَّلت العالم إلى قرية كونية، فإن الجغرافيا السياسية لا تزال قادرة على إقحام نفسها.. في تحديد العديد من الممارسات والسلوكيات الدولية والمحلية على حد سواء، ولا يزال بإمكانها أن تمنح وتمنع، تيسر وتعسر، وتفرض على صانعي القرارات ومتخذيها شروطاً من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – تجاوزها، سواء في المسائل المتعلقة بالأمن أو تلك المرتبطة بالتنمية، أو حتى التي لها وشائج بإدارة الحروب والصراعات المسلحة؛ بدءاً بما يخص أساليب الدعم اللوجستي، وانتهاء بوضع الخطط الحربية وتحديد سير المعارك.
والجغرافيا هي أحد مكونات نظرية القوة.. التي رسختها مدرسة «الواقعية السياسية» في العلاقات الدولية، وبرز على رأسها هانز جيه مورجنتاو؛ الذي جسَّد حمولة الجغرافيا على السياسية والاقتصاد معا.. في معرض تناوله لما أسماه «سلطان الأمة على المسرح الدولي». فقد أجمل عناصر قوة الدولة في الموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، والطاقة الصناعية، والاستعداد العسكري، والسكان، والشخصية القومية، والروح المعنوية العامة، ونوع الدبلوماسية، ونمط نظام الحكم.. معتبراً أن الجغرافيا هي أكثر العناصر استقراراً في بناء قوة أي دولة، وإن لم يهمل البصمات التي طبعها التطور التقني الرهيب.. في وسائل المواصلات والاتصالات على الجغرافيا، بما قلص دورها إلى حد ما. ومع ذلك هناك تأثيرات للجغرافيا على السياسية والاقتصاد، لم ينل منها التطور التقني – حتى الآن – ومن الصعب تصور إمكان إزاحتها في المستقبل، لأنها ترتبط بعناصر تتمتع بثبات واستقرار نسبي.
فالجغرافيا السياسية – في تصورها الأخير – تحليل لقوة الدولة ووزنها.. من خلال فحص تركيبها وتكوينها وخصائصها ومعطياتها الطبيعية والبشرية، إذ إنها هي «العلم الذي يضع الدولة في إطارها الطبيعي الباقي، ويردها إلى أصولها الجغرافية الدائمة الوثيقة، يحقق أساسها الطبيعي، يرصد الثوابت والمتغيرات على أطول مدى ممكن.. في توجهها وعلاقاتها، ثم يحدد نقط القوة والضعف الكامنة – أو الظاهرة – في وجودها السياسي، ومواطن الخطر أو الخطأ في هيكلها الجيوبوليتكي. إنها باختصار، العلم الذي يضع الدولة ككائن حي.. في ميزان حساس كما هو، دقيق وتحت مجهر موضوعي متجرد، ليقيس وزنها السياسي، وموقفها في عالم السياسة، ووقعها عليه محلياً وإقليمياً ودولياً»، كما يقول جمال حمدان.
وتأتي التجارة في مقدمة المسائل.. التي لا تزال تتأثر بالجغرافيا السياسية، انطلاقا من عمليات استخراج المواد الخام من الطبيعة، وصولا إلى عملية نقل البضائع برا وبحرا وجوا. وتلك المسألة ليست بنت العصر الحديث، بل تعود إلى الأزمان الغابرة. ويظهر تأثير الجغرافيا على التجارة جليا.. في مسألة تأمين الخطوط الملاحية ضد أعمال القرصنة البحرية، جنباً إلى جنب مع تأمينها من الخطورة التي تشكلها الرياح العاتية والعواصف، وكذلك تأمين القوافل التجارية البرية ضد قطاع الطرق.
وهنا تبرز عملية نقل النفط والغاز الطبيعي.. باعتبارهما من أهم السلع التجارية الدولية، لتظهر الدور الملموس الذي تلعبه الجغرافيا السياسية في هذا النوع من التجارة. فهذه التجارة لا تقتصر أنشطتها على التنقيب والاستخراج، ومن ثم الإنتاج فالاستهلاك؛ إذ إن هناك مرحلة وسطى بين كل هذا.. تتعلق بوسائط النقل؛ سواء كان بحرياً من خلال السفن أو الحاويات العملاقة، أو برياً عبر أنابيب تمتد آلاف الكيلومترات، وتخترق حدود أكثر من دولة.. لتربط مراكز إنتاج النفط بأسواق استهلاكه. وفي هذا الصدد، هناك دائماً ميزة نسبية للمناطق التي تتسم فيها عملية النقل بالأمان النسبي؛ فشركات الطاقة الدولية الكبرى لا يمكنها إسقاط هذا العامل من الحسبان، وهي التي تنفق مئات بل آلاف الملايين من الدولارات على عمليات التنقيب والاستخراج والتكرير، وتعلم أن هذا لا معنى له.. دون نقل النفط المكرر أو الخام إلى الأسواق العالمية.
وإذا كانت التطورات التقنية – كما سبق الذكر – تسعى جاهدة إلى التغلب على المشكلات التي تضعها الجغرافيا السياسية.. في وجه عمليات نقل الطاقة، فإن غياب هذه المشكلات لا يتوقف فقط على ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من وسائل، بل هناك ضرورة للنظر في وجه آخر للمسألة.. يتعلق باستغلال بعض البشر لأوضاع جغرافية معينة.. في تعويق – أو تهديد – وسائط نقل الطاقة برا وبحرا. فالأنابيب التي تحمل النفط والغاز الطبيعي.. تخترق صحراوات شاسعة، والحاويات العملاقة التي تبحر بهما.. عليها أن تمر من مضايق – تصل المحيطات بالبحار – لتنتهي عند موانئ بالدول المستوردة للطاقة.
وهنا، تجد بعض القوى السياسية المحتجة؛ سواء كانت مناوئة لنظام محلي، أو تسعى إلى النيل من قوة دولية كبرى.. تستورد كميات كبيرة من النفط والغاز.. فرصة سانحة لتفجير هذه الأنابيب، أو مهاجمة تلك الحاويات، من أجل تحقيق بعض أهدافها، التي تنحصر في احتمالات ثلاثة.. هي جني مكاسب مادية عن طريق بيع النفط، والضغط على الحكومات المحلية.. كي تلبي طلبات ملحة لهذه القوى السياسية المعارضة، أو التي تمارس احتجاجاً مؤقتاً حيال ظرف محدد. وثالثها إيلام قوى كبرى.. في سياق صراع دولي بين إحدى هذه القوى أو بعضها، وتلك الدولة وحلفائها؛ مثل ما هي الحال بين الراديكاليين الإسلاميين، وفي مقدمتهم تنظيما «القاعدة» و»الجهاد» من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة؛ التي بدورها أعلنت حربا لا هوادة فيها على هؤلاء الراديكاليين، خاصة من يجاهرون بعداء واشنطن، والتخطيط لإضرار مصالحها في الخارج والداخل.. بكل جهد مستطاع.
( نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)
نقلاً عن «المصري اليوم»