Times of Egypt

الاتصال بين يونيو ويوليو

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال

بحكم عوامل عديدة متشابكة؛ منها الجغرافيا والتاريخ بفروعيهما، ومنها الحضارة.. بشقيها الثقافي والمدني، ومنها الدين ومعطياته.. عبر مراحل تبلوره – كمعتقد منذ التاريخ القديم لمصر وإلى الآن – ومنها دوائر الدور الأمني القومي المصري، وما يرتبط به من علوم، ويحكمه من ضوابط وخطوط؛ بقيت القضايا المطروحة على عقل ووجدان الأمة المصرية ماثلة، وإن اختلف ترتيب أولوياتها.. منذ إطلالة مصر على العصر الحديث في القرن الثامن عشر، وخاصة على جدول أعمال الحركة الوطنية المصرية.. منذ مقاومة الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت، ومروراً بثورات 1805 و1882 و1919 ثم 1952 وإلى يناير 2011 ويونيو 2013. 

ولذلك، فليس تعسفاً.. أن نربط بين ثورة يوليو 1952، وبين ثورة يونيو 2013.. من حيث إن كلتيهما تصدَّت للتعامل مع قضايا الاستقلال الوطني، والدفاع عن أمن مصر، وتأمين ترابها.. وقضايا العلاقة بين النهر والبحر والصحراء، وقضايا التماسك المجتمعي.. وتمكين التنوع الاجتماعي والديني والمذهبي والجهوي والثقافي، من أن يبقى مصدر قوة للكل الوطني، وقضايا الدور المصري في المحيط العربي وجواره.. الذي اصطُلح على تسميته «الشرق الأوسط»، وفي العمق الأفريقي وفي المدى الدولي؛ وخاصة العالم الثالث، ومحاولة التوازن في التعامل مع القوى الكبرى الفاعلة.. غرباً وشرقاً. 

ولم تكن مفارقة، أن تبقى مقاومة ومحاربة الإرهاب.. أحد القواسم العظمى المشتركة بين الثورتين؛ ابتداء من المواجهة الكبرى عام 1954، وإلى ما جرى في بولاق الدكرور منذ أسابيع، مروراً بمحطات بالغة الأهمية.. شهدت ما يعد حرباً شاملة على الجبهات الخمس – شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وفي عمق مصر – حيث كان الإرهاب قد استشرى وتمكَّن، وخاصة بعد أن تحالفت قوى إقليمية ودولية.. على دعم وصول جماعة الإخوان الإرهابية إلى الحكم، وتغلغل عناصرها في مفاصل بعض مؤسسات الدولة. 

وحتى أكون أكثر اقتراباً من الدقة، فإنه على الرغم من عدم جواز عقد مقارنات بين مراحل تاريخية.. لأن لكل مرحلة ظروفها الموضوعية الحاكمة لها، إلا أنني أشير إلى أن التحديات – التي يجابهها نظام ثورة يونيو 2013 – وخاصة تحدي الإرهاب والأمن الاستراتيجي، ومعه تحدي بناء الإنسان وتعميق الوعي الوطني، وكذلك تحدي الزيادة السكانية والأوضاع الاقتصادية الاجتماعية؛ هي تحديات أكثر جسامة وأشد تعقيداً. 

ثم إن هذا الاتصال بين الثورتين، هو من صميم المنهج العلمي لقراءة التاريخ – أي دراسته واستيعاب دروس مراحله – وهو منهج وجود خط بياني متصل، فيه قمم وانحدارات ولكنه متصل. والكارثة التي تضرب مسارنا التاريخي والحضاري في مقتل.. هي أن يتم قطع اتصال الخط البياني أو اتصال الدوائر، لأن تاريخ البشرية هو – في الحقيقة – تاريخ تراكم واتصال المراحل التاريخية. وبغير ذلك، فلا تقدم ولا تطور ولا إنجاز؛ لأن الانقطاع يعني أن كل مرحلة تبدأ من الصفر، وتصل إلى نمو معين.. ثم تتوقف، ويتلاشى اتصالها بما بعدها. وعليه فإن الوجدان الوطني الجمعي – في مرحلتنا هذه – يصر على أن تستكمل ثورة يونيو 2013 مسارها.. على كل الأصعدة، لتنجز أهدافها وتتمم مهمتها، وتبني خطها البياني المتصل بإنجازات مرحلة يوليو التي سبقتها. مع الحذر من سلبياتها، لتأتي مرحلة جديدة.. غير منفصلة عن المرحلة الحالية وهلم جرا. 

ولقد يتعمد بعض – الذين يقترفون مهنة الكتابة، أو حرفة الخبرة الإستراتيجية – تمزيق تاريخ الوطن، والتركيز على مهمة الفصل بين مراحله؛ خاصة من 1952، وتضخيم السلبيات، وتعمد تزييف الوعي الوطني. ومن ذلك تركيزهم على اعتبار معارك مصر.. لتحقيق جلاء الاحتلال البريطاني، وتأميم قناة السويس.. كجزء من السعي للسيطرة وامتلاك موارد الثروة الوطنية، وتحقيق الاستقلال الوطني، والتنمية المستقلة، وإقامة الوحدة مع سوريا، ومد العون لشعب اليمن.. كجزء من تحقيق أمن مصر القومي – الممتد من القرن الأفريقي وباب المندب، إلى منابع نهري دجلة والفرات شمالاً – اعتبارهم ذلك وغيره.. مغامرات وتجاوزات، بل تراهم لا يكفون عن تكريس حتمية الاستسلام للعدو الصهيوني، والتعامل مع إسرائيل.. التي تسعى لتكون «الكبرى»، وتكون هي القوة الأولى القائدة للمنطقة، واعتبار أية مقاومة – أو رفض – لذلك، عنتريات فارغة.. إلى آخر الأطروحة التطبيعية. 

وهنا قادتني الصدفة لأشاهد فيلماً سينمائياً أجنبياً.. اسمه «الساعة الأشد حلكة أو ظلاماً»، ويحكي عن بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، ومجيء ونستون تشرشل إلى رئاسة الوزارة.. في عهد الملك جورج السادس، والصراع بين منهج حتمية المقاومة، وعدم الاستسلام.. حتى وإن أدى الأمر إلى فناء الجزر البريطانية (ويمثله تشرشل وأتلي.. وسانده الملك جورج السادس)، وبين منهج حتمية التفاوض مع هتلر، والاستسلام لتفوقه.. وتوسيط موسوليني في ذلك، (ويمثله رئيس الوزراء السابق تشمبرلين والوزير اللورد هاليفاكس). وفي لقطة شديدة الوضوح وبالغة العمق، دار حوار بين تشرشل والملك جورج السادس؛ حيث كان الأول بصدد التسليم بالدخول في مفاوضات الاستسلام.. أمام قوة هتلر والنازية الرهيبة.. المتقدمة على كل الجبهات، ولكن الملك همس لتشرشل بأن ينزل للشعب البريطاني ويستمد منه الرأي، والتوجه الذي يجب على الدولة المضي فيه؛ فنزل تشرشل من سيارته.. مترجلاً، واختفى في زحام البريطانيين، وركب المترو، وأجرى حوارات مع أفراد عاديين، ووجدهم جميعاً.. يؤيدون عدم التفاوض، وعدم الاستسلام، وعدم الرضوخ لهتلر، ورفض كل ما عدا المقاومة.. حتى آخر بريطاني. 

… عاد تشرشل للبرلمان، ووقف خطيباً.. ليقرأ على البرلمانيين البريطانيين ما سجَّله من أقوال عامة الناس، واضطر تشمبرلين أن يرضخ ويرفع منديله الأبيض؛ علامة لنواب حزب المحافظين.. ليؤيدوا موقف تشرشل. 

بعد الفيلم، قلت لنفسي: لو أن بعض الاستراتيجيين المصريين المعاصرين الآن.. كانوا هناك، لوصموا تشرشل وجورج السادس بالديماجوجية والشعبوية والحنجورية.. ولكن الله ستر!

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة