صلاح أبو الفضل
لا تزال تطورات المعركة الهائلة – التي بدأها طوفان الأقصى – تتداعى وتنكشف.. من خلالها مكامن
القوة والضعف في دول المنطقة، وركائز السياسات المختلفة للأطراف الفاعلة، والأطراف المحجمة عن
الفعل، والخطوط العريضة للاستراتيجيات المتبعة في المعسكر الغربي.. تجاه المنطقة. وللأسف الشديد،
تحول في الاسابيع الأخيرة.. مجرى الأحداث، الذي كان يسير ضد المحتل الإسرائيلي.. بفعل الصمود
الأسطوري لشعب غزة، وكل صور المقاومة.. إلى أن استشهد القائد الفلتة حسن نصر الله والكثيرون من
رفاقه، وسقط بطل الطوفان يحي السنوار على أرض غزة.. مقاتلا؛ ضاربا المثل في الإصرار ووضوح
الرؤية.
وتغير سير المعارك لصالح العدو، الذي اظهر حيوية لا ينبغى إغفالها.. في التعامل النشط – بكل عنف –
وكسر كل قواعد القانون الدولي.. على جبهات متعددة. ولولا الدعم الأمريكي-البريطاني الهائل.. عسكريا
واستخباراتيا، إلى جانب باقى مخالب الناتو لانهار وانهزم. لكن تغير مسار الحرب لم يعتمد على السلاح
والعتاد وطول النفس فقط ، ولكن على القدرة على المناورة وانتهاز الفرص. وللأسف كان مقاتلو غزة
وحدهم. فرغم أن حزب الله ساعد بإشغال نصف الجيش الإسرائيلي في المعارك، إلا أنه ابتلع طعم التهديد
الأمريكي.. فأحجم عن التدخل المباشر في المعركة، وانتظر.. فتأخر، بينما وقف الغرب كله مع اعدائهم،
وتحول المد لصالح إسرائيل.. التي التقطت الأنفاس خلال عام القتال الضارى، ورتبت خطواتها مع
تركيا.
وفى لحظة اهتزاز حزب الله والمقاومة، سارت مجموعات المرتزقة الإسلاميين.. من جنوب سوريا
بمساعدة اسرائيل، ومن شمالها.. بمساعدة تركيا، نحو دمشق؛ التى أنهك جيشها وشعبها، ولم يعد فيهما
قدرة على المقاومة.
ولسنا هنا بمعرض المشاركة في جوقة احتفال الجزيرة.. وباقى السذج، بسقوط نظام الأسد؛ فهذا يبقى
لحكم التاريخ حين تنجلى الحقائق. ولكن ما يعنينا، هو أن سوريا – التى لم تكن طرفا في المعارك الدائرة
– سقطت، وأصبحت جائزة لتركيا وإسرائيل، وتغيرت بسقوطها – أو ربما اتضحت به – خريطة الصراع
الجيوسياسي في المنطقة.
تقدمت القوتان لقضم أجزاء من سوريا.. لصالح كليهما، وللقضاء على مستقبل سوريا.. في الأمد
المنظور، وتأكد ان الصراع على الشرق الوسط.. أصبح ثلاثيا؛ بين تركيا وإسرائيل وإيران.. التي
اضعفت التطورات الأخيرة موقفها، لكنها لم تخرج بعد من حلبة الصراع كلية. وربما تربض المملكة
السعودية على مقربة، تستشرف دورا مستقبليا.. ظل كامنا في دهاليز العقل السعودي (منذ نشأة المملكة)
قرابة عشرين عاما.. قبل نشأة إسرائيل. ولا يزال الجميع يتنافسون – تحت مظلة الهيمنة الأمريكية – وإن
ظل النفوذ الروسي والصيني حاضرين.. على استحياء.
وتستهدف اطماع اسرائيل أمرين؛ أولهما: التوسع الجغرافي.. بضم واستيطان المزيد من الأراضي
العربية، كما أعلن أعضاء حكومتها في الخرائط المنشورة سابقا وحديثا – التي تقتطع أجزاء من سوريا
والعراق والأردن ومصر والسعودية – وما يستتبع ذلك من التطهير العرقي لكل الفلسطينيين من وطنهم..
سواء بالإبادة او التهجير. وثانيهما: بسط النفوذ الاقتصادي على مجمل المنطقة، وفرض السيطرة
العسكرية عليها.. بالذراع الطويلة، التي هدد بها نتانياهو في تصريحاته الهمجية.
اما تركيا، فلاتزال تعالج ازمة الهوية – التي اصيبت بها منذ سقوط الإمبراطورية، ونحا بها اتاتورك الى
حظيرة الغرب، الذي لم يتقبلها – ولذا، فهي تظل تراوح نوستالجيا الحنين لإعادة المجد التليد.. باسترداد
تدريجى للنفوذ في المنطقة العربية، واستدعاء هوية إسلامية عصرية، تكاد تكون فولكلورية بمظاهر
الدعم السطحي.. لجماعات الإسلام السياسي والارهابي؛ مثل الإخوان وداعش، وهي تصارع – في الوقت
نفسه – النمو المتزايد لحركات الانفصال الكردية.. الآخذة في النمو بتأييد غربى. وتركيا – في ذلك – مثل
إسرائيل؛ تعمد جغرافيا الى قضم مناطق عربية.. كسعيها لضم حلب وما حولها، والوثوب الى ليبيا، الى
جانب مد النفوذ الاقتصادي.. عبر نمو مضطرد لحجم التبال التجارى مع الجميع. وهي في هذا تتنافس
حاليا بشدة.. مع إسرائيل، ومستقبلا.. مع إيران، وتحتفظ – في ذلك – بخط الرجعة، أمام الإخفاق المهين
في الانتماء للغرب.. باستمرار عضويتها فى الناتو.
اما إيران، فتهدف أيضا للتوسع وبسط النفوذ.. بغطاء ديني شيعي.. مشابه للغطاء التركي السني، وبالتزام
الدفاع عن القضية الفلسطينية.. الذي تدعيه تركيا أيضا. وفي ذلك، تعتمد إيران خطين مختلفين؛ أولهما:
تنمية القدرة العسكرية.. بهدف نهائي نووي، يضمن لها الأمن. والآخر: مد النفوذ سياسيا وعسكريا عبر..
حلفاء اقليميين (العراق وسوريا ولبنان واليمن).. جرى ضربهم من المعسكر الصهيوني المناوئ. لكن
إيران تحتفظ بأوراقها، ولا يمكن التنبؤ بسهولة بباقي نواياها، ولا يمكن اسقاطها من الحسابات الجارية..
لاستعادتها إلى حظيرة النفوذ الأمريكي؛ وهو ما يفسر رفض أمريكا لضربها رغم الإلحاح الإسرائيلي
على ذلك.. حتى ماقبل حرب الإثنى عشر يوما الأخيرة.
وبإضعاف الدور الإيراني مرحليا، تبدأ إسرائيل في الالتفات لباقى المحيط العربي.. لتحويل هزائمها إلى
مكاسب؛ باقتطاع المزيد من الأراضي، وتنفيذ مخطط تهجير الفلسطينيين.. في غمرة الاضطراب
الحادث، ولتثبيت الكيان الصهيوني، وتوسيع رقعته، وفرض السيطرة – بالقوة الغاشمة لجيشها – كما هدد
نتانياهو. والتكهنات تدور، بشأن من ستبدأ به آلة العنف الإسرائيلية؛ هل بالعراق؟ ام باليمن.؟ أم بالأردن
ومصر؟
لم ينف الإسرائيليون.. انهم يريدون تهجير الفلسطينيين، وأي تفكير منطقي – لاستقراء النوايا الليكودية –
لابد وأن يصل إلى أن التهجير.. لابد وأن يكون في صدر أولوياتهم، لعكس المهانة التي تجرعها الكيان
الصهيونى على يد المقاومة الباسلة، وتحويلها الى انتصار، ثم التقدم لإنهاء القضية الفلسطينية برمتها،
وبدء التوسع الأفقي. وإذا فكرنا فيما تبدأ به، فلا بد أن نتخوف من أنه من المنطقي.. ان تبدأ إسرائيل
بمصر. فالعراق وسوريا وحتى اليمن.. أهداف يمكن الانتظار عليها لأوقات لاحقة، والاختيار بين تهجير
أهل الضفة، أو أهل غزة.. يرجح أن يكون تهجير أهل غزة أكثر مناسبة، من تهجير أهل الضفة.. بعد
التدمير الهائل لمعظم القطاع، والإنهاك اللانهائى لأهله.. بحيث يصبح الهرب الى صحراء سيناء – من
وجهة نظرهم – ضرورة حياة، تهون دونها ثوابت الصمود، والتمسك بالأرض الوطن.
والإسرائيليون يطمعون.. في ان اضعاف مصر بحزام الديون – التي اغرقتها في السنوات الأخير،
ومعاناة المصريين الاقتصادية – سيمنعها من المقاومة الفعلية للتهجير، رغم الرفض الرسمى المعلن.
وربما يعلقون آمالا على احتمالات تململ شعبي.. تحت وطأة الضغوط الاقتصادية، واستمرار صندوق
النقد في حصار الاقتصاد المصرى، وتكبيله بفوائد الديون، وإغرائه بالمزيد كمها..أملا في اهتزازات
داخلية، ينفذون اثناءها الى سيناء، مثلما فعلت اثيوبيا.. حين استغلت الانشغال المصرى بعد ثورة يناير،
وفرضت مؤامرة سد النهضة.. لسد مجرى النيل، والتحكم في شريان الحياة للوادى.. الذى تواصل لآلاف
السنين. وأوضحت التصريحات والتسريبات من واشنطن، أن ذلك كان بتمويل أمريكي.. بينما جرى
تنصيب أمريكا حكما في الأمر!!
ورغم انتقادات كثيرة معتبرة.. للتوجهات الاقتصادية في مصر، إلا أنه يجب التسليم بأن إدارة السياسة
المصرية – خلال هذه الفترة العصيبة – توخت الحذر في التعامل مع أزمة الحرب على غزة ولبنان،
وحافظت على تجنب التصعيد.. مع استمرار رفض التهجير. لكن الضغط الإسرائيلي، والمؤامرات التي
لم تتوقف.. حتى بعد معاهدة السلام، لا تترك أي مجال للاطمئنان، ولابد من إيجاد صيغة جديدة لبناء
تفاهم اعمق.. بين النظام والقيادة، وبين النخب الوطنية.. المؤيدة والمعارضة، من أجل اصطفاف قوي..
لمجابهة الخطر المحتمل؛ خاصة وأن إسرائيل بدأت تتململ من معاهدة السلام، وربما تسعى للخروج من
إسارها.. كما فعلت في حالة سوريا، ولا يمكن أن تواجه مصر ذلك.. بدون التحام وتوحد كامل بين
الجمهور المصري وحكومته، وهذا الجمهور لا يستطيع منح هذا التأييد الكامل المطلوب ضروريا، بينما
هو مستنزف في ضغوط اقتصادية واجتماعية متواصلة.
إن الغرب عموما – بقيادة أمريكا وبريطانيا – مستمر بإصرار.. في حماية مشروع الاستعمار الاستيطاني
لإسرائيل في المنطقة، بالتحالف العضوي معها؛ كرأس حربة.. لضمان النفوذ والسيطرة المستمرة على
الشرق الأوسط. ووسيلته الأساسية في هذه المرحلة.. هى «أكل الثوم.. بفم إسرائيل»؛ بدعم استعمال القوة
المفرطة – التي وصلت الى حد الإبادة بالسلاح والتجويع في فلسطين – والحصار الإقتصادى الذى يقترب
من حد الإرهاب.. لإضعاف مصر بالذات. وليس سد النهضة، ومسلسل الديون، والمناوشات على
الحدود.. في سيناء وليبيا والسودان، إلا بعض وسائل هذه الاستراتيجية الشريرة، ولا يمكن مجابهتها.. الا
بجبهة داخلية صلبة ومتماسكة، وهذا هو التحدي الآني.. الأكثر إلحاحا.