محمد أبوالغار
غادر عالمنا المفكر العظيم نصر أبو زيد.. مثل هذا الأسبوع منذ 15 عاماً. قد لا يعرف الكثير من الأجيال الجديدة.. من هو نصر أبو زيد، وأود أن أقول لهم: إن فكر هذا الرجل يوماً ما – عندما تنقشع الغمة ويتفتح العقل – سوف يكون له شأن كبير.. في صياغة مستقبل الوطن؛ بفكر جديد، يتيح التفكير والإبداع.. الذي يصوغه عقل الإنسان، ويومها سوف تتحطم تابوهات كثيرة، وننطلق جميعاً إلى آفاق جديدة.
كان نصر أبو زيد – بعد تغريبة طويلة – قد استقر مع زوجته في بيت جديد.. في مدينة 6 أكتوبر، وقبل تمام الاستقرار، دُعي إلى مؤتمر في إندونيسيا، وهناك أصيب بفيروس غامض.. وأدخل المستشفى – وهو غائب عن الوعي – ثم نُقل إلى القاهرة.. حيث رحل بعد فترة قصيرة عن عالمنا، ودُفن في قرية قحافة.. المجاورة لطنطا، التي وُلد فيها وعاش طفولته.
نصر أبو زيد من مدينة طنطا، ابن عائلة مصرية بسيطة، لم تستطع أن تدفع بابنها المتفوق إلى الجامعة، فتعلم.. حتى أنهى دراسته في مدرسة الصنائع قسم اللاسلكي، حتى يعمل ليكفل إخوته بعد وفاة أبيه، وفعلاً عمل عاملاً فنياً في مصلحة التليفونات. ولكنه كافح، وأكمل التعليم الثانوي من منازلهم.. أثناء عمله، ثم دخل كلية الآداب وتفوق في قسم العربية، وعين معيداً بالقسم.
وحصل على الماجستير، وكان عنوان الرسالة «التأويل العقلي عند المعتزلة»، عام 1976.. بتقدير ممتاز، واستمر في دراسته.. حتى حصل على الدكتوراه عن «فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي» عام 1981. وفي المرحلة بين الماجستير والدكتوراه، سافر بعثة إلى أمريكا عام 1978 – في منحة من مؤسسة فورد – زار عدداً من الجامعات، واطلع على طرق البحث الحديثة، وتعمَّق نصر في دراسات أخرى.. لها علاقة باللغة العربية والأدب العربي والشعبي، ساعدته على إنهاء الدكتوراه.
ثم سافر في منحة إلى جامعة أوساكا في اليابان، حيث كتب هناك أهم كتاب في حياته الفكرية.. «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، وكتابه «نقد الخطاب الديني». وكلا الكتابين أصبحا مرجعين دراسيين وعلميين مهمين للباحثين.
كتاب «مفهوم النص».. دراسة متعمقة لفهم النص القرآني.. من منظور لغوي ومنهجي. يدرس الكتاب أثر القرآن الخالد على الثقافة الإسلامية، ويحلل الكتاب.. كيف يتشكل النص من خلال الواقع، وكيف يتشكل الواقع من خلال النص، ويناقش التفسير والتأويل.. مع دور المفسر في تحديد دلالة النص، ويشرح الكتاب التحويلات التي طرأت على مفهوم النص عبر العصور، والكتاب يشكل محاولة لفهم النص القرآني.. من خلال المنهج اللغوي، والمنهج التاريخي، والمنهج المقارن.
كتاب «مفهوم النص».. لنصر أبو زيد، كان دراسة جديدة من نوعها في علوم القرآن؛ بطريقة ومنهج علمي حديث، مختلف عن الكم الهائل من الدراسات السابقة. ولكن الدارسين التقليديين لم يُعجبوا به، وبعد أن أصبح نصر عالماً مرموقاً في تخصصه في مصر وفي العالم، بدأ الهجوم عليه وعلى أفكاره تدريجياً.
تحالف ضد نصر.. التيار الإسلامي المتشدد، الذي كان عالي الصوت والنبرة، وكان يستخدم العنف لتهديد وتخويف معارضيه، وكان له وجود في الشارع وفي الجامعات وفي الهيئات الحكومية. وتحالف أيضاً مجموعة من الشيوخ المهمين والدارسين لعلوم القرآن، الذين نشروا وكتبوا فيها؛ فرأى بعضهم أن أفكار نصر الحديثة والمختلفة.. قد تشكل خطراً على وضعهم الأكاديمي، وفي وسط الهجوم من المجموعتين، وفي عام 1993 تقدم نصر بأبحاثه لنيل وظيفة أستاذ، فلم يوافق عضوان من الثلاثة.. على ترقيته؛ من بينهما الشيخ عبد الصبور شاهين، ولكن مجلس القسم ومجلس الكلية رفضا قرار اللجنة، ووافقا على ترقيته. ولم يوافق مجلس الجامعة.. بعد موافقة مجلس الكلية، في سابقة نادرة.
بدأ جدل شديد داخل الجامعة حول أحقية الحكم.. على ضمير وأفكار الباحث، ورفض ترقيته لهذا السبب. وأصبح الأمر قضية رأي عام، حين أجرى لطفي الخولي في «الأهرام».. حواراً مفتوحاً استمر أسابيع طويلة.. بين مؤيدي رأي نصر ومعارضيه.
في هذه الفترة، كان التيار الإسلامي المتشدد عالي الصوت والنفوذ، فرفع أحد المحامين دعوى على نصر تتهمه بالكفر، واستمرت القضايا في الدرجات المختلفة.. حتى انتهت بالحكم بتفريق نصر عن زوجته د. ابتهال يونس.. لأن نصر كافر، ولا يجب أن يستمر زواج مسلمة من كافر. وأثار الحكم ضجة كبيرة، وكان الحكم دعوة علنية لأن يحل دمه، فوضع عليه حراسة ومنع من الخروج من بيته.
خلال هذه الفترة – ونصر محبوس في بيته – كنا نزوره في منزله، ونجلس مع محاميه، ونتباحث في المستقبل. كانت فترة عصيبة، ولكن نصر وابتهال كانا متماسكين.
عُرضت على نصر وظيفة أكاديمية في جامعة ليدن في هولندا، وسافر إلى هناك، واستمر في أبحاثه العلمية المتميزة.. في جو أكاديمي بجامعة متخصصة في الدراسات الإسلامية، فألف كتباً كثيرة ونشر أبحاثاً عظيمة، وكان له تأثير كبير في كل البلاد العربية، وإن استمر الهجوم عليه بشراسة من التيار الإسلامي المتشدد.
واكتشف نصر.. أن أبحاثه وكتبه صعبة على القارئ العادي، ولذا بدأ يتحدث إلى العامة.. مبسطاً أفكاره، ومسهلاً أدواته، وظهر على الشاشة الصغيرة في مختلف البلاد العربية، ونشر كتباً للقارئ العادي.
وبعد أن هدأت الضجة، عاد نصر إلى مصر.. في عدة زيارات قصيرة، تلاها زيارة طويلة في 200 .. بدعوة من مكتبة الإسكندرية، لإلقاء سلسلة من المحاضرات المتخصصة، وفوجئت المكتبة أن الآلاف جاءوا ليحضروا محاضرات نصر أبو زيد. وقرر نصر أبو زيد العودة للإقامة في مصر فترات طويلة، بعد أن وصل إلى سن التقاعد في جامعة ليدن.
خلال إقامته في هولندا، حصل نصر على أستاذ كرسي كليفيرنجا عام 2000، وهو كرسي لمدة عام، يحصل عليه من دافع عن الحرية وحقوق الإنسان، وهو شرف كبير. قُدمت له الجائزة ملكة هولندا في احتفال مهيب، وحصل على كرسي ابن رشد في جامعة أوترخت عام 2002، وعلى كرسي ابن رشد في جامعة برلين عام 2005.
ترجع صداقتي لنصر أبو زيد إلى عام 1990، وبعد صدور كتابه العمدة.. «مفهوم النص»، توثقت الصداقة معه ومع زوجته الرائعة د. ابتهال يونس الأستاذة بكلية الآداب. وحين وقعت الواقعة، ودخلنا في سلسلة المحاكمات، كنت مع مجموعة من الأصدقاء قريبين من نصر، وفي زيارات مستمرة لمنزله. وبعد أن صدر الحكم حوصر المنزل بالشرطة.. خوفاً عليه من متطرف مخبول، واستمرت الزيارات حتى ميعاد المغادرة النهائية. استمرت العلاقة الوثيقة طوال سنوات الهجرة الإجبارية، فكنت أزور نصر وابتهال – مرتين أو ثلاث مرات كل عام – وأمضي معهما ساعات طويلة.
حضرت – مع الراحل الدكتور أحمد مرسي، والدكتورة شيرين أبو النجا – حفل الدكتوراه الفخرية لنصر أبو زيد في لايدن، واعتبرنا أنفسنا ممثلين لجامعة القاهرة.. التي ننتمي لها، ولبسنا الأرواب الجامعية، ومشينا في طابور التكريم في الحفل. وفي أول زيارة له إلى مصر بعد النفي، أقمت حفلاً في منزلي لجميع أصدقائه.. الذين اختارهم بالاسم، ودعوته للحديث في النادي الشهري لأعضاء هيئة تدريس جامعة القاهرة.. للتحدث لمجموعة 9 مارس.. المنادية باستقلال الجامعات والحريات الأكاديمية. واستمرت علاقتنا الوثيقة مع هذا الرجل الوطني العظيم والمثقف الكبير، ومع زوجته د. ابتهال.. حتى وفاته.
نصر كان يؤمن بالحرية لنفسه، ولكل معارضيه، وللبشر أجمعين، وهو الذي قال: يجب أن نتحرر من كل سلطة.. تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا الآن، وقبل أن يجرفنا الطوفان.
يقول نصر – في كتابه الذي خطَّه في هولندا – «أؤمن تماماً بأن التجربة الحياتية، تقع في قلب ما نسميه بالمعرفة. تجاربنا وخبراتنا هي التي تشكل المعرفة». هناك الهم السياسي والاجتماعي والوطني.. المسيطر على خطاب نصر طوال مراحل حياته، ويبدو أن هناك تأثيراً كبيراً – من الإقامة في اليابان – على حياته.
وتصبح المشكلة عند نصر.. كيف يصبح دمج الحداثة – التي هي ضرورية للتقدم – بالفكر الإسلامي. وهي النقطة التي حدث بسببها خلاف حاد.. بين نصر ومعارضيه من الإسلاميين التقليديين.
نقلاً عن «الشروق»