سمير مرقص
استعرضنا، في مقال الأسبوع الماضي، ما دار في فعاليات القمة الـ17 لدول البريكس – الذي عُقد مطلع شهر يوليو الجاري – وكيف أن البيان الختامي تضمَّن التشديد على ضرورة «إصلاح الحوكمة العالمية، من خلال تعزيز نظام دولي متعدد الأطراف.. أكثر عدلاً وإنصافاً ومرونة وفعالية وكفاءة واستجابة وتمثيلاً وشرعية وديمقراطية ومساءلة … وتدعيم التضامن والاحترام المتبادل والعدالة والمساواة»؛ وهو المطلب الذي أصبح مُلحاً، وباتت تطرحه قوى ودول كثيرة من جهة، والتكتلات الجديدة الصاعدة؛ مثل تكتل الجنوب العالمي ومنظمة شنغهاي.. وبطبيعة الحال البريكس من جهة أخرى، تحت عنوان: إصلاح معمار النظام العالمي: الاقتصادي والسياسي.
تنبع أهمية ما خلصت إليه دول تكتل البريكس – المؤسسة على مرحلتين 2006 و2010؛ البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، والدول التي انضمت لاحقاً في 2023؛ مصر والإمارات العربية المتحدة وإيران وإثيوبيا وإندونيسيا – إلى أن تلك الدول تمثل إجمالاً..
أولاً: ما يقارب نصف سكان العالم.
ثانياً: ما يناهز 40% من الاقتصاد العالمي.
إذ إن حجم التبادل التجاري بين الدول الأعضاء ــ في صورته الراهنة ــ يتجاوز التريليون دولاراً، كما تقدر بعض الدراسات الاقتصادية المعتبرة القوة الشرائية لتلك الدول بأنها تعادل الدول السبع الكبار. وتتحكم منظومة دول الـ«بريكس» في..
أولاً: 40% من إنتاج النفط العالمي.
ثانياً: ثلاثة أرباع المعادن الثمينة. ما شجعها على أن تعمل على مدى ما يقرب من ربع قرن لإعادة صياغة معمار النظام العالمي.
وفي ضوء، الحقائق السابقة من جهة، والمحاولات الحثيثة التي تبذلها تلك الدول عملياً.. للاشتباك مع جوهر النظام الاقتصادي السائد منذ الحرب العالمية الثانية ــ ومؤسساته الدولية، ومن خلفها الكيانات الاحتكارية الكبرى المهيمنة على الاقتصاد العالمي من جهة أخرى – طرحنا تساؤلات في ختام مقالنا الأول.. حول مستقبل هذا التكتل على المركز الشمالي الثري، ونذكر القارئ بها، لنشرع في الإجابة عنها، وهي: ما مستقبل البريكس؟ وما قدرته على إصلاح المعمار الدولي الاقتصادي/المالي والسياسي غير العادل؟ ومن ثم تلبية تطلعات الجنوب العالمي؟ وما ردة فعل الشمال المركزي؟ وهل سينجح فيما فشلت فيه التكتلات الجنوبية التاريخية؟
بداية، يجب ألا ننسى أن النظام العالمي.. الاقتصادي السياسي الراهن، يدير العولمة ويسيرها.. لمصلحة دول المركز الشمالي (مجموعة السبع بالأساس وحلفاؤها)، وذلك ــ كما يرصد الباحثون ــ من خلال: حرية تداول الرساميل، وحرية التبادل في حيز التنافس الدولي، وتصدر الشركات المتعددة الجنسيات، وتكييف السوق الدولية.. في إطار ما يعرف بـ «إجماع واشنطن» (1989)، الذي أسس لسياسات التحرير المالي، وتسليم المؤسسات المالية المركزية الشمالية (صندوق النقد، والبنك الدولي) مقاليد قيادة النظام المالي العالمي، وكذلك منظمة التجارة الدولية.. التي تجسد سيطرة السوق.
بلغة أخرى، لابد من إدراك أن البريكس – في حقيقة الأمر – يخوض معركة حقيقية ضد النظام العالمي بتجلّييه/بوجهيه الاقتصادي السياسي النيوليبرالي.. القائم منذ ما يقارب النصف قرن. وعلى الرغم من الأزمات الفادحة – التي سببها هذا النظام بسياساته، وترتب عليها لا مساواة تاريخية، وفقراً وتهميشاً… إلخ – إلا أنه لم يزل قائماً وسائداً. لذا يُجمع كثير من المراقبين على أن نجاح البريكس فيما تدعو إليه.. من خلق بدائل اقتصادية جديدة، ومن ثم صياغة سياسات أكثر إنصافا.. يتوقف على ما يلي:
أولاً: توفير الموارد المطلوبة.
ثانياً: حل التناقضات الداخلية بين الدول الأعضاء – بين الصين والهند على سبيل المثال – ما يعني ضرورة تبني التكامل.. كنهج حاكم وموجه وضابط لدول البريكس.
ثالثاً: الإصرار على جعل المبادرات التي يدعو إليها تجمع البريكس واقعاً مادياً، فالدعوة إلى كسر هيمنة الدولار.. مثلاً، تستدعي اتخاذ موقف راديكالي/جذري من أجل ذلك. فلا يُكتفى بالتعامل بين الدول بعملات جديدة احتياطية للدولار، وإنما لابد من تفعيل فكرة إلغاء «الدولرة» كلية.
رابعاً: بلورة برنامج واضح تجاه قضايا الجنوب الأساسية؛ الدين الخارجي، الهجرة، الغذاء، التغير المناخي، التكنولوجيا، الأمن الغذائي، العدالة في سلاسل القيمة العالمية.
خامساً: العمل على بناء مؤسسات دولية.. سياسية واقتصادية؛ متحررة من هيمنة الشمال المركزي الاقتصادية، ما يفتح المجال أمام الجنوب العالمي.. ليكون نداً وفاعلاً من أجل رفاه وتقدم مواطني الكوكب، ومشاركاً أصيلاً في إدارة شؤون العالم.
سادساً: استثمار وتوظيف القدرات الذاتية المتنوعة.. للدول الأعضاء في البريكس.
سابعاً: الالتزام الأخلاقي بمواجهة التداعيات الكارثية.. للسياسات التي نفذتها الليبرالية الجديدة، التي تسببت في أزمات تنموية وبيئية/مناخية واجتماعية، وصراعات ونزاعات.
وإذا ما اتبع تكتل البريكس الشروط المشار إليها، فقد يتمكن من تحقيق ما عجزت عن تحقيقه من جهة التكتلات الجنوبية التاريخية.. التي بدأت بالتشكل منذ خمسينيات القرن الماضي؛ مثل حركة عدم الانحياز، ومجموعة الـ 77، ومؤتمر باندونج، ثم لاحقاً التكتلات الإقليمية مثل ميركوسور في أمريكا اللاتينية، والاتحاد الإفريقي، علاوة على بعض التجمعات الاقتصادية الأخرى؛ مثل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، وغيرها، من جهة أخرى.
وهنا، نذكر بتجربة المطالبة – التي تقدمت بها الموجة الجنوبية العالمية في نهاية عام 1974 – بإنشاء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدلاً؛ متحرراً من الهيمنة، يحقق المساواة بين مواطني الشمال والجنوب. وذلك من خلال تأمين أسعار عادلة للسلع الأولية، وضمان حق البلدان النامية في الموارد المشاع (المشتركة)، والقبول الدولي بممارسة دول الجنوب لاستراتيجيات تعتقهم من التبعية، وتفك ارتباطهم بمراكز الهيمنة الاقتصادية.. في ضوء استراتيجيات وطنية ذاتية، ونقل التكنولوجيا من أجل التصنيع الوطني… إلخ.
بيد أن هذه المطالبة لم يتسنَّ لها النجاح للأسباب التالية:
أولاً: عدم تأمين الموارد اللازمة.
ثانياً: تناقض المصالح بين الدول الأعضاء في هذه التكتلات.
ثالثاً: غلبة التنافس أحياناً والصراع أحياناً أخرى.. بين الدول التي من المفترض أن تكون متحالفة، بدلاً من التكامل.
رابعاً: الاختراق الغربي وإحكام التبعية للمركز الشمالي.
وبعد، على تكتل البريكس التزام الشروط المذكورة للنجاح أعلاه من جانب، وتلافي أسباب الإخفاق التاريخية من جانب آخر، بما يمكن من إعادة بناء ــ لا مجرد إصلاح ــ معمار النظام العالمي.. الاقتصادي/المالي السياسي، وأن يكون محصناً ضد إعادة إنتاج مساوئ النظام القديم.
نقلاً عن «الأهرام»