Times of Egypt

«أطفال الشوارع».. حكاية قديمة متجددة

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن
أيام شبابي، كنت أذهب أحياناً إلى مقاهي حي «الناصرية».. لأشاهد – عبر الفيديو – فيلماً انتهى
عرضه من السينما.. قبل أيام أو أسابيع قليلة. وكان هذا قبل زمن الأطباق اللاقطة، وبالطبع قبل
الإنترنت.. الذي جعل الأفلام السينمائية تحت أطراف أصابعنا.
في إحدى المرات، وبينما كان الفيلم قد وصل إلى منتصفه، دخل ضابط شرطة، فوجدني جالساً
بين صبيةٍ.. رثةٌ ملابسهم، شعورهم يسكنها غبار الشوارع، وعرق الصيف القائظ. فلما رأوه..
انتفضوا واقفين في فزع، وتكوموا كأنهم أحجار متسخة.. أكلتها عوامل التعرية، ثم دفعتها
عاصفة إلى الأسفل، ثم راحوا ينظرون إلى الضابط.. في خوف وارتباك شديدين. لم يحدثهم هو
في شيء، إنما أمرهم بالتقاطر، وطالب مساعديه من صف الضباط والمخبرين.. أن يسوقوهم إلى
عربة الشرطة الواقفة في الخارج، تنتظر الصيد غير السمين.
بقيت في مكاني أرتشف الشاي الساخن على مهل، وأراقب ما يجري.. بينما صاحب المقهى
أوقف عرض الفيلم، ووقف يرتجف.. منتظراً دوره في التوبيخ، وربما القبض عليه.. كما حدث
مع الصبية. اقترب مني الضابط، وملأ عينيه من هيئتي، ثم قال لي:

  • بطاقتك. أخرجت بطاقة الهوية، وكانت وقتها من ورق مقوى، ومددتها إليه، فنظر فيها،
    وقرأ الاسم والعنوان والوظيفة، ثم سألني:
  • كيف تجلس في هذا المكان؟ كنت أيامها أختار بين موضوعين لأطروحة الماجستير:
    «التنشئة السياسية للطرق الصوفية» و«الثقافة السياسية للفئات الاجتماعية المهمشة»،
    فأجبته:
  • أنا أعد رسالة ماجستير في جامعة القاهرة.. عن «الثقافة السياسية للمهمشين»، وهؤلاء
    هم المجتمع البحثي الذي أدرسه. لم يكن في بطاقة الهوية ما يدل على أنني طالب
    دراسات عليا، إنما فقط صحفي. ووجدت أن هذه الإجابة لا تبرر وجودي هنا فقط، إنما
    أيضاً تجعله يفهم أن هؤلاء الذين يتعامل معهم – كأنهم ذباب أو هاموش – هم بشر، يمكن
    لنا دراسة أحوالهم، بل يجب علينا أن نفعل ذلك.

الحقيقة، أنني – في ذلك اليوم، كنت قد ذهبت إلى المكان.. لتناول الطعام، ومشاهدة فيلم
أو أكثر، وليس أبداً للوقوف على طبيعة المجتمع البحثي.. الذي تراودني رغبة في
دراسته. وكنت قرأت عنه بعض الدراسات الأولية في الأسابيع الأخيرة – وإن كان حول
مهمشين من لون آخر، وفي أماكن أخرى – ولم يكن من المستساغ أن أقول للضابط إنني
أديب شاب، ألتقط القصص من عيون الناس ووجوههم، والإنصات إلى حصاد ألسنتهم،
وأن القصص تكثر في «قاع المدينة».. كما تعلمنا من رواية قصيرة لـ«يوسف
إدريس».. بهذا العنوان؛ فربما يكون هو من صنف رجال الشرطة؛ الذين يعتبرون
الأدب، روايةً وقصةً ومسرحاً وشعراً، مجرد كلام فارغ. وقد لا يعرف إدريس أصلاً،
وليس هو من القلة التي تقدره، ومنها من يكتب أدباً، حتى ولو محاولات متعثرة.

نظر إليَّ الضابط في تعجب، ورفت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وسألني:

  • ألم تجد غير هؤلاء الضائعين لتدرسهم؟ ابتسمت، وأجبته:
  • هم ضحايا، وليسوا جناةً.. على أي حال. هز رأسه – دون أن يقف أبداً عند ما قلته – وقال
    وهو يمد البطاقة لي:
  • ربنا يعينك على أولاد الكلاب. نظرت إلى الخارج، فإذا بالمخبرين يدفعون الصبية بقسوة
    إلى داخل عربة.. ستضيق بهم دون شك، وقلت للضابط:
  • هل بينهم مشتبه به في جريمة؟ زمَّ شفتيه، وكتم غيظه، وردَّ على السؤال بسؤال:
  • هل هذا سؤال صحفي؟ نظرت في عينيه، وأجبته:
  • بل سؤال إنساني.
    قهقه، وقال ساخراً:
  • إنساني.. هؤلاء مثل كلاب الشوارع الضالة.
    وقبل أن أنطق اعتراضاً على هذا الوصف، واصل هو:
  • بين هؤلاء نشالون، ومتعاطو مخدرات، وآباء وأمهات أطفال من علاقات غير مشروعة.
    عدت إلى القول:
  • ولو، لكنهم ضحايا.

لم يمتعض هذه المرة، وقال:

  • لست أنا الجاني، هناك من يخطئون في هذا البلد، ونحمل نحن نتائج أخطائهم.
    ابتسمت وقلت له:
  • يا ليتها أخطاء، إنما هي خطايا.
    لم يكن عالم من نطلق عليهم «أطفال الشوارع».. بعيداً عن عيني وسمعي. ولا أنسى تلك
    الليلة، التي غاصت خلالها قدماي في لحمهم.
    كنت عائداً من عملي.. بعد الواحدة والنصف صباحاً، وقفت على الجانب الأيسر من ميدان
    «باب اللوق»، وتراءى لي «كوبري».. كان يعتليه إلى الضفة اليمنى، وقلت أصعد إليه –
    بدلاً من العبور من نهر الشارع، حيث السيارات التي كانت مطمئنةً إلى خلاء الشوارع من
    المارة فتسرع بلا تحسب – في ذلك الظلام الذي يخيم على ميدان، انطفأت أغلب اللمبات
    النابتة.. في أعمدة، تتوزع في جوانبه.. على مسافات متباعدة.
    صعدت الكوبري حتى الدرجة الأخيرة، وغصت في الظلام على مهل، فإذا بي أدوس لحم
    آدميين، سمعت أنينهم. توقفت أغالب دفقةً من رعب.. سرَت في أوصالي فجأةً.
    وقلت أتقهقر، فإذا بي أدوس لحماً جديداً. تقدمت إلى الأمام، فلم يختلف الأمر. مددت بصري
    لأرى، فإذا برؤوس تنبت في الظلمة، ووجوه لا أتبين ملامحها جيداً، لكنني أدركت أن هؤلاء
    المشرَّدين.. قد وجدوا في الكوبري الذي يخلو من المارة – في ساعات الليل المتأخرة – ملاذاً
    ينامون على صفحته الممتدة.. حتى الصباح.
    وكنت أراهم على أسيجة الحدائق، ومبعثرين في حديقة ضيقة.. أمام مسجد «السيدة زينب»،
    تتوسط أول شارع «بورسعيد».. قبل أن يزيلوا خضرتها المجهدة، ويقطعوا أشجارها قصيرة
    القامة، فيهدموا لهم عالمهم البسيط.
    وكم رأيتهم عند جدران مبنى مؤسسة «دار الهلال» الصحفية – سواء على رصيف يمتد
    أمامها، أو على حافة الشارع الذي يسري خلفها – وحين كنت أهبط إلى نفق.. تحت محطة
    مترو «السيدة زينب»؛ مفضلاً إياه عن صعود الكوبري، كنت أراهم يتكومون في ظلمته؛
    فتياناً وفتيات، حتى انتبهت الشرطة.. لما يحدث في هذا النفق ليلاً، فأغلقته زمناً.

كان بعضهم يتوزع على المقاهي.. يمدون أيديهم للناس، فيعطيهم البعض قليلاً، وتنهرهم
الأغلبية، بل تهُشّهُم.. وكأنهم بعوض هبط على الوجوه فجأةً.. من شواشي الشجر، وحول
اللمبات الواهنة.
لكن المكان المختلف.. الذي رأيتهم فيه – كان خلال ثورة يناير؛ إذ جاءوا إلى ميدان التحرير،
وهتفوا مع الهاتفين، وكأنهم قد وجدوا فرصةً.. ليشاركوا الناس أي شيء.
لهذا، لم يكن من الجائز.. تجاهل وجودهم هذا، حين كتبت روايتي المشهدية عن الثورة..
«سقوط الصمت»، ثم تحولوا إلى أبطال.. في روايتي «باب رزق»، التي استفدت فيها.. من
كل معرفتي المباشرة السابقة عنهم، أو ما قرأته في دراسات اجتماعية.. بحثت حالهم.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة