د. محمد كمال
استمعنا في الأشهر الأخيرة.. لعبارة «الشرق الأوسط الجديد»، تتردد على ألسنة سياسيين ومحللين في الولايات المتحدة وإسرائيل. والفكرة – التي يتكرر ترديدها – تتلخص في أن الحروب الإسرائيلية الأخيرة.. التي بدأت في غزة وامتدت إلى جنوب لبنان، وأسهمت في تغيير نظام الحكم في سوريا، وانتهت بحرب الاثني عشر يوماً ضد إيران؛ قد أحدثت تغييرات استراتيجية كبرى في المنطقة، ومهدت لظهور شرق أوسط «جديد».. تهيمن عليه إسرائيل، ويضمن اندماجها في المنطقة.
واقع الأمر، أن هذه ليست المرة الأولى.. التي يتردد فيها تعبير «الشرق الأوسط الجديد»، فقد سمعنا هذا المصطلح – أكثر من مرة – في الماضي؛ منها بعد حرب تحرير الكويت، وبعد حرب الإطاحة بحكم صدام حسين في العراق، وبعد توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وناقش مؤتمر مدريد للسلام – في إطاره المتعدد الأطراف – كثيراً من الأفكار.. حول تعاون إقليمي؛ يضم إسرائيل ودولاً عربية. كما قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز.. مشروعاً اقتصادياً لهذا الشرق الأوسط الجديد.
والواقع، أن كل هذه الأفكار والمشاريع.. كان مصيرها الفشل في الماضي، ولا أعتقد أن الأفكار الجديدة – التي يطرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. تحت نفس العنوان – سوف يكون لها حظ أفضل من سابقتها. الشرق الأوسط الجديد هذه المرة.. يقوم على افتراضين خاطئين؛ الأول: هو أن القوة العسكرية قادرة على إحداث التغيير في المنطقة، وأن إسرائيل قد حققت انتصاراً عسكرياً حاسماً، مهد الطريق لشرق أوسط جديد. أما الافتراض الثاني: فهو أن إسرائيل ستكون المهيمنة على هذا الإقليم، وبالتالي تستطيع تحقيق رؤيتها.. في شرق أوسط جديد.
بالنسبة للافتراض الأول، فبالتأكيد.. قد حققت إسرائيل مكاسب عسكرية مهمة ضد خصومها، ولكن – في نفس الوقت – تعرضت لخسائر، ودفعت تكلفة كبيرة؛ خاصة في حربها مع إيران، قد لا نعرف حجمها الحقيقي.. بسبب القيود والرقابة التي تفرضها حول هذا الموضوع، حيث لم تُنشر – حتى الآن – قائمة شاملة بالمنازل، والبنى التحتية.. التي تضررت جراء الضربات الإيرانية في الحرب الأخيرة بين البلدين.
ويقدر البعض الخسائر.. بما يتراوح بين 11.5 مليار دولار و17.8 مليار دولار، أو ما بين 2.1% و3.3% من الناتج المحلي الإجمالي.. البالغ 540 مليار دولار. وتشمل هذه الأرقام النفقات العسكرية، وأضرار البنية التحتية، واعتراض أكثر من 400 صاروخ إيراني. يُضاف لذلك، ما ذكرته تقارير استخباراتية.. عن أن الضربات الأمريكية والإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية، قد أجلت البرنامج النووي الإيراني لعدة شهور، ولم تقض عليه نهائياً. وأن معظم مخزون إيران من اليورانيوم – المخصب بدرجة عالية – لم يصبه الضرر.
والأهم، أنه رغم أي انتصارات عسكرية إسرائيلية أخيرة في الشرق الأوسط؛ فقد خرجت منها أكثر تضرراً سياسياً، وأكثر عزلة دبلوماسية.. على المستوى الدولي، وفي أوساط الرأي العام العالمي.
أما مسألة «الهيمنة» الإسرائيلية على الشرق الأوسط – بعد ما حققته من انتصارات عسكرية – فقد فنَّدها باقتدار «ستيفن والت».. أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد – في مقال بعنوان «إسرائيل لا يمكن أن تكون قوة مهيمنة في المنطقة». جاء فيه أن احتمال هيمنة إسرائيل.. يبدو بعيداً؛ فكيف لدولة يقل عدد سكانها عن 10 ملايين (نحو 75% منهم من اليهود) أن تهيمن على منطقة شاسعة؛ تضم مئات الملايين من العرب المسلمين، إلى جانب أكثر من 90 مليون إيراني فارسي؟
ويضيف، أن القوة المهيمنة.. هي تلك التي تكون قوية، إلى درجة أنها لا تواجه تهديداً أمنياً حقيقياً من جيرانها، ولا تقلق من ظهور منافس جديد في الأفق. وهذا هو الوضع الذي وصلت إليه الولايات المتحدة.. مع بداية القرن العشرين؛ حين انسحبت القوى العظمى الأخرى من مواجهتها، ولم يعد – في الإمكان – لأي دولة، أو تحالف.. مجاراتها اقتصادياً أو عسكرياً.
لكن إسرائيل اليوم، لا تملك هذه الميزة. فالحوثيون لا يزالون في موقع التحدي، وجيشها لا يزال غارقاً في غزة.. رغم ما ألحقه بها من دمار هائل، والتهديد الإيراني مازال قائماً، بالإضافة إلى وجود قوى إقليمية أخرى.. تملك جيوشاً قوية.
كذلك، فإن نجاحات إسرائيل العسكرية الأخيرة، لم تحلّ المشكلة الأساسية ..المتمثلة في الفلسطينيين، الذين يشكلون نحو نصف السكان.. في الأراضي التي تسيطر عليها.
كما أن قتل إسرائيل أكثر من 55000 فلسطيني، لم يقربها من حل سياسي. بل على العكس، فقد شوه ذلك صورتها عالمياً، وقلص الدعم لها.. حتى عند حلفائها التقليديين. وكذلك فإن الهيمنة الإقليمية المستدامة، تتطلب قبول الدول المجاورة هذا الدور، بل وترحيب البعض به.. أحياناً. وهي شروط غير متوافرة، تجعل إسرائيل في حالة قلق دائم، وستضطرها لشن حروب متكررة.
ويختتم مقاله.. بقوله إنه: عند جمع كل هذه العوامل، يتضح أن إسرائيل لا تصل إلى مستوى القوة المهيمنة. ولا شك في أن قادتها يتمنون ذلك، لكن هذا الهدف سيبقى بعيد المنال. «وهذا يعني أن الأمن – طويل الأمد – لإسرائيل، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تسوية سياسية دائمة مع جيرانها؛ بمن فيهم الفلسطينيون. وهو تذكير آخر، بأن السياسة – لا القوة وحدها – هي ما يصنع الأمن المستدام في النهاية».
باختصار، فإن أي حديث عن شرق أوسط جديد، يستند على هيمنة إسرائيلية.. هو مجرد أمنيات في ذهن من يرددها، وأوهام ستصطدم بالواقع.. الذي سيكشف زيفها، وسيكون مصيرها الفشل؛ مثل سابقتها.. التي حملت نفس العنوان، طالما قامت على منطق القوة، وتجاهلت حل القضية الفلسطينية.
نقلاً عن «الأهرام»