أحمد الجمال
في هذه المساحة – منذ بضعة أسابيع – كتبت عن فوضى المرور، وتفشِّي ظاهرة السير عكس الاتجاه.. في منطقة التجمع، وجاء رد من الداخلية.. فيه أنَّ حملة وُجهت للمنطقة، وأسفرت عن ضبط مخالفات وحجز سيارات كانت تسير عكسياً. ووجهت الشكر للوزارة، وقدمت بعض الاقتراحات، ولا أدري هل قرأوها وفكروا في صلاحيتها وجدواها أم لا، وها هو الحادث المأساوي المفجع، الذي راحت ضحيته تسع عشرة بنتاً من قرية واحدة في محافظة المنوفية، كن قد خرجن من بيوتهن طلباً للرزق، ولسداد مصاريف التعليم والادخار للزواج.
وقد كتب الأستاذ الكبير محمد أمين.. مقالاً بالصفحة الأولى في «المصري اليوم» (عدد الأحد الماضي) عن تلك المأساة، وكتب أيضاً بعض الكتاب والكاتبات المحترمين، وتحدَّث بعض مقدمي البرامج الفضائية عن المأساة.. ولأن هذا المقال يُنشر بعد كل ما كتب، وقيل.. خلال أيام من وقوع المأساة إلى الآن؛ فربما لا يضيف جديداً.. حول ما أثير – وبحق – عن مسؤولية الحكومة، ابتداء من رئيس الوزراء ونازل، وعن عزوف مدبولي والوزراء.. عن الاتجاه للقرية المنكوبة وأسرها المكلومة، وشيوع الرهان على أن الناس – مع الوقت – ستدفع بما جرى إلى خلفية أدمغتها، وسينشغلون بهمومهم غير المتناهية.
وفي ظني، وقد عشت الحادث بكل جوارحي، وتذكرت ما كان من أمر أجيال أنا منها، عاصرت نقاوة الدودة وجني القطن وشاركت فيهما، وعشت لحظات وداع النازلين شمالاً «بحري».. ضمن الترحيلة لحصاد الأرز في براري كفر الشيخ وامتداداتها شرقاً وغرباً، والطالعين جنوباً نحو «الوَسايا» – «جمع وِسِيّة» – وأطيان كبار الملاك في المنوفية، وخاصة آل الفقي في كمشيش!.
نعم، عاصرنا.. وعاش بعضنا مرار قحط المعايش، لدرجة أن كثيرين من رجال الترحيلة المتجهة شمالاً.. كانوا يضطرون للشحاتة – أي التسول المؤقت – لأن زادهم من العيش والمش والبصل نفد، ويتقدم أحدهم ليتطوع بخلع جلبابه، ويعقد أكمامه.. ليصبح أقرب للكيس، ويدور على الدور والدواوير «جمع دَوَّار».. يطلب أرغفة العيش البطاطي، حيث لم تكن ثمة أفران «طابونة»، ولا دكاكين تبيع الخبز، ناهيك عن أن أجرة العمل في الترحيلة.. تصرف عند موعد العودة، أي بعد أسابيع أو أشهر!
ومع ذلك العذاب والقهر، ورغمهما لم تحدث حوادث قتل، أو موت جماعي.. مثلما حدث في حادث المنوفية الذي هو «ترحيلة» معاصرة.. لجني العنب.
وربما يقول البعض.. إن القتل الجماعي حدث، عندما كان الأنفار يحشرون في مقطورات تجرها جرارات الحرث، وتسير في طرق غير ممهدة.. على جسور المصارف والترع، وهذا صحيح، ولكنه حدث في مرحلة تالية على تلك التِي أتحدث عنها.
وغاية ما أود قوله عن الترحيلات في ربوع ريفنا – بحري وقبلي وشرقي وغربي – هو أنه لا بد من التصدّي لمشاكل منظومة العمل في الأراضي الزراعية، خاصة في مواسم الحصاد والجني، ومقاومة الآفات. وكذلك منظومات العمل.. التِي تتطلب نقل اليد العاملة في وسائل نقل متعددة. غير أن مربط الفرس – في الكلام عن ذلك الحادث، وما على شاكلته – هو عن دائرة المسؤولية عما يجرى في أنحاء بلادنا.. من حوادث طرق وفوضى مرور، وفوضى حياة اجتماعية؛ مثل العربدة الرهيبة في المناطق الساحلية.. أثناء مواسم التصييف، لأنها دائرة تتسع لتشمل كل من تضمه منظومة صناعة الوعي الجمعي، وصياغة الرأي العام.. أي الصحافة والإعلام والنوادي الرياضية ودور العبادة من كنائس ومساجد، وأيضاً المدارس والجامعات وغيرها.
ولا أبغي بهذا التوسيع.. أن تضيع المسؤولية عن الحادث، وتبرأ ذمة مدبولي ووزرائه.
ولكن نحن في مواجهة كارثة مأساوية، تصيب كل المجتمع في مقتل، وتتلخص في عبارة قد تكون جارحة: «نحن نحتاج لإعادة تربية اجتماعية وثقافية»، والضمير ينصرف للكافة في كل المستويات، بل إن المستوى إياه.. الذي يفترض أنه مع الفلوس والنفوذ والعنظزة، يملك سلوكاً اجتماعياً وثقافياً.. ناضجاً وراقياً ومنضبطاً؛ هو المستوى نفسه الذي يضرب كباره وصغاره بالرقي الاجتماعي والثقافي.. عرض الحائط!
إن الكل راسب رسوباً فضائحياً.. في معادلة بناء مجتمع واعٍ منضبط، يحترم إنسانيته وقوانينه، وأعرافه الحضارية، ومكنوناته الإيمانية العقائدية.. الكل راسب، لأن الاختبار الحقيقي لكل كلام يصدر عن داعية ديني، وعن كاتب وصحفي، وإعلامي، وهلم جراً.. هو مدى انعكاسه على سلوك الناس، وعلاقاتهم البينية كبشر، وأيضاً علاقاتهم مع الشارع والطرق السريعة، وأيضاً علاقتهم مع المال العام، والمنشآت التِي يرتادونها؛ وصولاً إلى تعاملهم مع صناديق القمامة.. بل والقمامة نفسها.. ذلك أنك تصادف ممتطياً لفارهة بالملايين، يلقي بعقب السيجارة، ويتمخط، ويتفل.. من النافذة، في وجوه من حوله!!
نقلاً عن «المصري اليوم«