Times of Egypt

حقيقة ما يحارب..

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي 

كُتَب هذا المقال في نهاية الأسبوع الأول للحرب الإسرائيلية المسعورة ضد إيران. 

لك أن تحب إيران أو أن تكرهها.. لك أن تؤثمها على مشروعها الصفوي الإمبراطوري، الذي سمَّمت به المنطقة العربية لأكثر من 40 سنة، وخلخلت استقرار أربع دول عربية، وانتهت بها إلى حطام طائفي، أطلال دولة وأطلال مجتمع؛ وهي في ذلك مؤثَّمة لا ريب. 

ولكن ليست ثمة مشاعر أخرى.. غير الغضبة للحق والنقمة على الإثم، يمكن ألا تعتري كل عاقل ذي ضمير.. إزاء غطرسة ودموية وجنون القوة لدى الكيان الإسرائيلي. 

وهي ذات النقمة على السلوك الإجرامي المنفلت للكيان الصهيوني.. في إبادته لغزة، وتهويده للضفة، واحتلاله لعموم فلسطين.. كما في استباحته سوريا ولبنان.. كما في إمعانه في حصار مصر مائياً واقتصادياً، باختراقات وتحالفات عدائية، يراد بها تركيع الإرادة المصرية، وحضها على القبول بالقيادة الإسرائيلية تحت رايات أخرى. 

الحري بالمتابعة والتدبر – أكثر من السلوك المارق والوقاحة السياسية ووحشية الدمار والقتل – هو قدر الدعم السياسي والعسكري والإعلامي غير المشروط.. الذي يحظى به هكذا سلوك إرهابي – منتهك للقوانين الدولية والإنسانية – من الغرب الأوروبي والولايات المتحدة بالضرورة. 

الأنكى.. هو الإمعان في إظهار التعاطف والاحتفاء والقبول مع كل ما هو إسرائيلي، وفي إظهار التبلد والقسوة، بل والعدوانية والاحتقار، تجاه كل ما هو عربي وشرقي ومسلم.. وكأننا لم نغادر السمت النفسي للغرب «الصليبي».. تجاه الشرق العربي مسلميه ومسيحييه. 

وكأن كل ما جرى من دماء في أنهار الإنسانية – على مدار مائة سنة – لم يغير في السمت العنصري الاستشراقي للعقلية الأوروبية.. وهي التي دفعت ثمناً باهظاً للعنصرية والقبول بشطط القوة خراباً وقتلاً.. 

وكأن لم يزل «الشرق شرقٌ والغرب غربٌ، ولن يلتقيا».. كما قال الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلنج في قصيدته الشرق والغرب في نهايات القرن التاسع عشر!

«الاستشراق ليس مجرد خيال أوروبي عن الشرق، بل هو مؤسسة من المعرفة والسلطة معاً».. فهو خطاب يتعدى الأدب والأكاديمية، ليصبح أداة سياسية استعمارية. فإن «الشرق» – كما صُوِّر في الأدبيات الغربية – لم يكن واقعاً موضوعياً، بل بناءً خطابياً.. يخدم مصالح السلطة الاستعمارية.. هكذا تحدث «إدوارد سعيد» في كتابه الأشهر «الاستشراق». 

الشرق – العربي والإسلامي والآسيوي – يُقدَّم على كونه.. فضاءً غريباً، متخلفاً، جامداً، عاطفياً، فاقداً للأهلية الحضارية؛ هكذا تريده أدبيات الاستشراق.. مقابل الغرب العقلاني المتحضر الحداثي الرائد حضارياً، والذي جاء قدره.. أن يحمل ذلك الوزر الإنساني من الشعوب الشرقية المتخلفة على ظهره.. وليعبر بها عتبة الحضارة! 

وعلى ذلك – وفي لحظة ما – لا يعود الشرق مكاناً جغرافياً، بل يصبح فكرة، استعارة، مجازاً.. لنقصٍ ما في العقل الغربي ذاته. وتصبح الهيمنة عليه واستغلال مقدراته.. ضرورة حضارية؛ كي لا يضل. 

تلك ليست محاولة لاستنهاض شطط شرقي وعربي.. مقابل شطط وعنصرية غربية. ولا حض على الانتكاس بالسلوك الإنساني.. إلى ما كانت عليه علاقات البشر قبل قرون. ولكنها تبصرة بحتمية رؤية الأمور، وتدارسها بعين الحقيقة لا بعين التمني!

إن حقيقة ما يُحارَب في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا وليبيا والسودان والعراق، ثم إيران مؤخراً.. هو عقيدة تبغض، وتستعدي، وتخشى.. كل ما هو عربي ومسلم وشرقي في المطلق. عقيدة تتدثر بترهات تاريخية عن تخلف الشرق وتراجع عقله.. ترهات – نحن من نعضدها!! – بترخصنا في شأن العلم والعقل، وهواننا على أنفسنا.. قبل هواننا على الناس؛ بتظالم ونفاق ومحاربة للأهلية فينا.

سُئل «روي كازاجراندا» مؤخراً – وهو مؤرخ أمريكي منصف، عليم بالتاريخ العربي والإسلامي على وجه الخصوص – عما إن كان ما يراه يجري في الشرق الأوسط مؤخراً.. هو حرب صليبية ممتدة، فقطع بالإيجاب! بل وساق الرجل ما يعضد ذلك، من مقولات قادة الحرب العالمية الأولى؛ الذين تولوا تقسيم الشرق إبان «سايكس بيكو». وكيف كان هاجس سقوط القدس مهيمناً على النفوس.. هاجس مسكون بوقائع التاريخ التي لم يغب عنها أسماء كـ«صلاح الدين الأيوبي»، وملوك الحملات الأوروبية كـ «ريتشارد» الإنجليزي ومن مثله. 

مرة أخرى ذلك ليس اعتصاماً في الزمان، ولا استدعاء للدين والأسطورة في غير موضع.. ولكنه حض على أن نحيا تلك اللحظة من التاريخ بحقيقتها، وأن نكف عن خداع الذات.. بالتمني وأوهام نتعاطاها؛ عن أن النفس البشرية لدى خصومنا قد تجاوزت عوار الضغينة والبغضاء، لنستعين بذلك على القعود وتبرير عدم الفعل.. فنفقد كرامتنا – قبل مقدراتنا – على مذبح الوهم والعجز معاً. 

قال «جورج كليمنصو» – رئيس وزراء فرنسا إبان الحرب العالمية الأولى – إن «الحرب عملية جادة، لدرجة لا تسمح بتركها للجنرالات فقط». وكانت مقولة «الجنرال ديجول» المقابلة «أن السياسة أخطر من أن تترك للساسة فقط». 

آن للعسكرية في الشرق – على اتساعه – أن تجد الملاذ والمأمن والهداية في السياسة. وآن للعسكرية والسياسة – كلتيهما معاً – أن تجدا الملاذ والمأمن والهداية في العلم والفكر والإبداع.. وقبلها في ضمائر الشعوب ووجدانها. 

فَكِّرُوا تَصِّحُوا..

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة