مصطفى حجازي
تقول «كريستين لا جارد» – رئيسة البنك المركزي الأوروبي – «التجارة العالمية تغيرت إلى الأبد، ولن تعود كما كانت»! في إشارةٍ منها إلى ما يحدث من تصدُّع في المعسكر الغربي التقليدي.. إثر الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة، زعيمة الغرب.
ورغم التندُّر على كون الغرب يتصدع، وعلى كون فضاءات جيو-استراتيجية جديدة تتشكل، لا يمكن أن نتجاهل حقيقةً ملهمةً، وهي كون الغرب – كما نعرفه – هو قوميةٌ صُنعَت صناعة؛ قوميةٌ صُهِرَت في بوتقة صراعات وحروب وحشية.. على مدار ثمانية قرون!
ومنذ الصراع العلَم – وهو حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) – وبزوغ معنى القومية الذي تلاها، وحتى بلوغ الأمر مداه.. في الحربين العالميتين الأولى (1914-1918)، والثانية (1939- 1945).. بدمارٍ يلامس زوال البشرية، تتعلم أوروبا والعالم معها – بضريبة الدم والنار والدمار – أن إنفاق الوقت والجهد والموارد.. في وضع تصورات ناجعة للتعاون والتكامل، وخلق التكتلات الفاعلة اقتصاديًا وسياسياً وعسكرياً، يبقى أمضى وأوفق وأكثر قدرةً.. على منح كلِّ دولةٍ حُلمها في الشراكة في حضارة مهيمنة، بدلاً من الصراع على موقع سيادةٍ وريادةٍ متوهم.
تنتهي الحرب العالمية الثانية، لتقوم عنقاء أوروبا من رماد الحرب.. إلى أفق الوحدة. تتأسس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951، تتبعها معاهدة روما 1957، التي تنشئ المجموعة الاقتصادية الأوروبية لتوسيع التعاون نحو التجارة الحرة والتنقل الحر. يصل الأمر إلى ذروة رقيِّه في معاهدة ماستريخت 1992؛ إيذاناً بقيام الاتحاد الأوروبي.. ككيانٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ يجمع تصوُّراً لهوية أوروبية موحدة، تُنتحل من التاريخ انتحالاً.
وعلى إثر مقولة السيدة «لاجارد»، ورغم كلِّ العبث من جانب السيد «ترامب».. في حربه التجارية، سيُكمل الغرب مسيره البراجماتي.. في التعاون على المصالح، وخلق ضرورات الوحدة؛ إدراكاً لضرورات البقاء، واستجابةً وجوديةً لدرء أهوال الحرب، ولأن البديل هو الوهن والتبعية، وأوهام الريادة والتنمية، بينما هم توابع.. تدور في فلك قوى عالمية أخرى.
نقول هذا، وقد تتابعت عدة مشاهد حريةٍ بالتأمل؛ وتحديداً ما بين جولة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».. في ثلاث دول خليجية شقيقة، التي بدأت في 13 مايو الجاري، وقمة أمريكية-خليجية.. تُجرى دونما تمثيل لجامعة الدول العربية فيها، وما بين مؤتمر القمة العربية الرابعة والثلاثين.. في 17 مايو الجاري في بغداد، الذي وافق انعقاده الذكرى الثمانين لإنشاء الجامعة العربية. وهي القمة ذاتها.. التي غاب عنها كثيرٌ من الرؤساء والملوك. وفي تلك المشاهد كثيرٌ من حال ومآل الواقع العربي.
في تلك المشاهد، ما يمكن أن يُقرأ على أن العروبة.. قد أضحت قدراً مستثقلاً يُبغى التخفف من استحقاقاته؛ كتبعات الفكر المشترك، والفعل المشترك.
ويأتي ذلك بلسان حالٍ – لا يحتاج إلى لسان مقالٍ – يقسم العالم العربي إلى دولٍ شابةٍ.. «حديثة منشأ»، ذات موارد ورؤى وأولويات تنميةٍ.. لا أولوية فوقها، ثم الأغيار.
أولويات تقودها التنمية الاقتصادية الذاتية والمجتمعية – دون القومية – وتحسينٍ في جودة الحياة.. دونما التوقف كثيراً عند قضايا الانتماء لفكرة كبرى، أو لحقائق تاريخية وثقافية تُلزم، ولا تتجاوز فكرة الانتماء.. حدود الالتزام بمنظومة تعايشٍ في مجتمعات تلك الدول، بين العاملين فيها من مواطنيها أو غيرهم، وأن الانتماء لأي أفكار كبرى – كالعروبة ذاتها – بات من أوزار تاريخ الهزائم.. الذي يلزم مجافاته، بل والقطيعة معه!
كما يُرى أن الفضاء العربي الأوسع.. بدوله الأقدم، صار فضاءً مترهلاً فاشلاً، لزاماً عليه.. أن يصير مقوداً مسوداً للدول الأحدث عمراً، الأكثر فاعليةً في إدارة شأن التنمية.
وعلى إثر ذلك، تُنازع جامعة الدول العربية.. أسباب وجودها، ويُحطُّ من قدرها الواجب، ويجرى اختزالها إلى كيانٍ بيروقراطيٍّ هامشيٍّ، يُستدعى لاعتماد ما يُراد له أن يعتمد.. بالصيغة العربية؛ اضطراراً أو نكايةً، ولكن ليس أبداً منطقاً وضرورةً وأولويةً.
لا تُؤثم هذه القراءة أحداً، ولا ينبغي لها، ولكنها تحاول أن تذكرنا جميعاً.. بأن من لم يملكوا أسس قوميةٍ – كما الحال في الغرب الأوروبي، وفي الشرق الآسيوي – انتحلوا لها من التاريخ، ما يعين على اختراعها.. على غير أصل أو لغة، أو وجدان مشترك، وذلك حين وعوا أن المنافحة على ريادةٍ وقيادةٍ منفردة متوهمة.. لن تغني أو تحمي أو تديم تنمية.
آخر ما نرجوه في مقالنا هذا، أن نستدعي شعارات قومية.. من كتاب الحماسة، وآخر ما نرجوه.. أن يُصادر حق أي دولة، في أن ترى مسار مصالحها ومصالح شعوبها وجماعاتها.. على نحوٍ يوافق تصوراتها.
ولكن ومن واقع تجارب البشر – التي أثمرت تنميةً، وحفظت دولاً، ورقت شعوباً، وضمنت ريادةً وسيادةً وسبقاً.. كالحال الغربي الأوروبي – كل ما نرجوه لكلِّ قائمٍ على الواقع العربي – ولن أسميه الوطن العربي، حتى لا نستنفر البعض – أن نسأل أنفسنا بتؤدة وصدق: هل العروبة لازمة؟!
ومن هذا السؤال، قد تكون البداية لمستقبلٍ.. أرفق وأرحب، وأقل عنتاً ومهانةً: هل العروبة لازمة؟!
فكِّروا تصحُّوا!
نقلاً عن «المصري اليوم«