Times of Egypt

السياسة والاقتصاد

M.Adam
علي الدين هلال  


د. علي الدين هلال..


كتبت من قبل عن «السياسة والإحصاء»، وعن «السياسة والتاريخ»، فعاتبني بعض الأصدقاء.. بأنه كان من الأولى أن ابدأ بالعلاقة بين السياسة والاقتصاد؛ بحكم الصلة العضوية بين المجالين، وأنني قضيت أكثر من نصف قرن.. مرتبطًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي تخرجت منها وأقوم بالتدريس فيها.
لم يكن اقتران الاقتصاد والعلوم السياسية في اسم هذه الكلية.. اعتباطًا، بل جاء على غرار مدرسة لندن الشهيرة.. التي تحمل نفس الاسم، وتعبيرا عن عمق الصلة بين الاثنين. وهي صلة قديمة.. بدأت مع تنظيم الإنسان لحياته في كيانات مستقرة، وزاد منها التداخل والتواصل بين الدول.. في مرحلة الاستعمار التقليدي، ومرحلة العولمة التي نعيشها الآن، رغم ما يعتورها من تقلبات.
العلاقة بين الاقتصاد والسياسة.. علاقة «تمكين متبادل»؛ فكل منهما يوفر للآخر.. فرصًا لتحقيق أهدافه في أوقات النجاح، أو يعوقها في أوقات التعثر. فجوهر السياسة، هي الإدارة العامة لحياة الناس، وتنظيم العلاقات فيما بينهم.. بهدف تحقيق الرضاء الشعبي والاستقرار السياسي، وذلك من خلال شكل نظام الحكم، وتوزيع السلطة، وأساليب مشاركة المواطنين فرادى وجماعات. وجوهر الاقتصاد، هو التنظيم الاجتماعي لعملية الإنتاج، وتوزيع للسلع والخدمات، بما يستجيب لاحتياجات الناس ويُحقق العدالة بينهم.
العلاقة بين المجالين في عالم اليوم معقدة ومتشابكة، ويمكن فهمها من خلال عدة جوانب. أولها: دور الدولة في إعداد البنية التحتية للنمو الاقتصادي، فهي تقوم بالدور الأساسي في توفير متطلبات النشاط الاقتصادي.. من طرق ووسائل نقل وموانئ ومطارات، وخدمات الكهرباء والمياه، والمرافق العامة.
وثانيها: تأثير القرارات السياسية على النشاط الاقتصادي.. كتلك الخاصة بتنظيم حقوق الملكية وأنماطها في مجالات الإنتاج، وسياسات الضرائب، والرسوم الجمركية، والأسعار، والأجور والضمان الاجتماعي، فالاقتصاد يعمل وفقا لقرارات وسياسات تصدرها الحكومات والمجالس التشريعية صاحبة الاختصاص؛ مثل معدلات البطالة، والتضخم، والنمو الاقتصادي. فعندما تنخفض هذه المعدلات فإنها تفرض قيودا على الدول.. في سياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، وتكون مصدرا لعدم الرضاء الشعبي عن أداء الحكومات، ومصدرا لعدم الاستقرار. والعكس صحيح، فإن ارتفاعها يؤدي إلى حرية الدولة في المجال الخارجي، وزيادة الرضاء الشعبي، وشرعية النظم الحاكمة.
ورابعها: علاقة الدولة مع القطاع الخاص، وإلى أي مدى تُوفر السياسات الاقتصادية والمالية المُتبعة.. مُحفزات على المبادرة والانطلاق، أو تكون قيدا عليهما ومعوقة لهما.
ربط الفلاسفة بين السياسة والاقتصاد مبكرا؛ فأعتبر أفلاطون أن التفاوت الاقتصادي بين الطبقات، واستشراء روح الأنانية الفردية.. المرتبطة بالملكية الخاصة، خطرا على استقرار نظام الحكم، ومعوقا لقيام نظام الحكم الصالح. لذلك، فقد منع الحكام والجنود من الملكية الخاصة.. في كتابه «الجمهورية»، حتى يضمن تفرغهم تماما.. لتحقيق المصالح العامة. وربط الفكر الإغريقي بين أشكال نظم الحكم، وأوضاع الملكية والثروة، وعلاقة الطبقة الغنية بالسلطة؛ فكان النظام «أوليجاركيا».. عندما تجمع أقلية بين الثروة والسلطة، و«ديمقراطيا».. عندما يكون تصريف الأمور العامة للمدينة في يد المواطنين.
وفي العصر الحديث، ربط المفكرون الأوروبيون بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية.. كمتلازمتين لتحقيق الديمقراطية. لذلك، لم يكن غريبا أن هذه الدول، ربطت الحق في التصويت في الانتخابات.. بشروط اقتصادية؛ مثل امتلاك حيازة معينة، أو الحصول على مرتب بعينه، فكان دفع الضرائب شرطا لممارسة هذا الحق. وحاول جون ستيوارت مِل.. التوفيق بين السياسة والاقتصاد، علي أساس مفهوم المنفعة، وأن هدف النظام الاجتماعي.. هو تحقيق أكبر قدر من المنافع لأكبر عدد من الأفراد.
وبينما جعل كارل ماركس الاقتصاد هو أساس السياسة، وأن تاريخ العالم هو سِجل الصراع بين من يملكون ومن لا يملكون، وأن الذين يملكون.. يسيطرون على مقاليد الحكم، ويسخرونه لخدمة مصالحهم. وحسب تعبيراته؛ فإن الاقتصاد يمثل البنية التحتية للمجتمع، التي على أساسها تكون السياسة هي «البنية الفوقية».. أي تابعة للاقتصاد. وصحيح أن بعض كتابات ماركس عبرت عن إدراكه.. بأنه في بعض الحالات الاستثنائية، يمكن للاعتبارات السياسية أن يكون لها الأولوية، فإن التفسيرات التي سادت عنه أكدت على الأحادية الاقتصادية.
وفي العلاقات الدولية، استخدمت الدول الأدوات الاقتصادية.. في تنفيذ سياساتها الخارجية، وهناك تاريخ في فرض العقوبات الاقتصادية، من أحدثها العقوبات على إيران وروسيا. وهناك أيضا الإجراءات السياسية التي حددتها الدول الكبرى.. كشرط لحصول الدول النامية على المساعدات الاقتصادية، وهو ما يسمى بـ «المشروطية السياسية». كما ارتبطت القوة السياسية والعسكرية بتوافر عناصر القوة الاقتصادية، وكان ذلك مدخلا رئيسيا لفهم صعود الدول وأفولها.
… على سبيل المثال، ارتبط صعود الولايات المتحدة – بعد الحرب العالمية الثانية – لقيادة المعسكر الغربي.. بتعاظم قدراتها الاقتصادية، وازدياد مكانة الدولار الأمريكي.. كأساس للتعاملات التجارية والمالية الدولية. وفي المقابل، فإن الانهيار السياسي للاتحاد السوفيتي في عام 1991، سبقه سنوات من الركود الاقتصادي، وتعثر الزراعة، وتراجع القدرة على الابتكار التكنولوجي.
وهناك أمثلة أخرى؛ مثل تجربة الاتحاد الأوروبي.. كنموذج للتداخل بين الاقتصاد والسياسة.. في تحقيق التكامل الإقليمي، وقرارات الرئيس ترامب في 2 أبريل 2025، برفع الرسوم الجمركية – التي اختلطت فيها الأهداف الاقتصادية والسياسية – وتنطبق نفس الملاحظة على زيارته للسعودية وقطر والإمارات في الشهر التالي.
يظلُ التداخُل والتأثير المُتبادل بين العوامل السياسية والاقتصادية.. سائدًا في عالم اليوم. فالولايات المُتحدة في عهد دونالد ترامب، تستخدمُ أدوات جُمركية ومالية.. للحفاظ على صدارتها للنظام الدولي، ودور القُطب المُسيطر فيه. بينما يؤدي انتقال مصادر الثروة من الغرب إلى الشرق، والصعود الآسيوي – وفي قلبه الصين – إلى التأثير على التوازنات السياسية الدولية، واتجاه العالم إلى نظام مُتعدد الأطراف، يتفاعل فيه عدد من القوى الكُبرى.
نقلا عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة