Times of Egypt

تسريبات عبد الناصر «2-2» 

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد 

بدأت المقالة الماضية.. باعتذار عن عنوانها غير الصحيح، وأبدأ اليوم بالاعتذار أيضاً.. عن لبس وقعتُ فيه؛ وهو أنني فهمت أن «قناة ناصر».. هي التي اجتزأت التسجيل. ولما كان معروفاً أن القناة.. وثيقة الصلة بأسرة الزعيم الراحل، فقد طالبت المسؤولين عن نشر الوثيقة، بعدم تكرار هذا العمل.. إلا بناء على مشورة علمية دقيقة، وبشفافية كاملة؛ حتى لا يتكرر استغلال الوثائق المجتزأة.. في الترويج لأفكار مغلوطة وخطيرة. 

 ولقد وصلني صباح يوم نشر المقال.. من المهندس عبدالحكيم عبدالناصر، ما يؤكد أن التسجيل الأصلي المذاع.. كامل، وأن الجهات صاحبة المصلحة في التشويه.. هي من قامت بالاجتزاء، ولقد تواصلت معه تليفونياً، واعتذرت عن هذا الالتباس. وهنا تتضح الحقيقة كاملة؛ فالجهات صاحبة المصلحة.. أخذت النص الكامل للقاء عبدالناصر بالقذافي، واجتزأت منه ما يتسق مع رؤاها.. بحيث يبدو عبدالناصر رافضاً فكرة الحرب لتحرير الأرض، وساخراً ممن يطالبونه بذلك، ومتخلياً عن القضية الفلسطينية، ومستهزئاً بقيادات المقاومة، بل ومنقلباً على العرب أصلاً. وكلها أفكار مكذوبة.. اجتزأت عبارات لعبدالناصر، ووظفتها في خدمة أغراضها، وليس ثمة منهج لدحض هذا التشويه.. أفضل من التحليل الموضوعي؛ للكيفية التي أدار بها عبدالناصر صراعه مع إسرائيل.. بعد هزيمة يونيو 1967. ويعتمد التحليل التالي – اعتماداً مطلقاً – على خطب عبد الناصر، وقراراته الفعلية. ومن لديه أي خلاف مع هذا التحليل.. ليس عليه سوى أن يأتي بدليل. 

ويسهل على من يطالع نصوص الوثائق، إدراك أن عبدالناصر قد امتلك رؤية واضحة لإدارة الصراع مع إسرائيل.. منذ هزيمة 1967 وحتى وفاته، وتستند هذه الرؤية إلى مبدأ استراتيجي.. لم يتخلَّ عنه لحظة؛ وهو أن «ما أُخذ بالقوة لا يُسْتَرَد بغير القوة». ولكن هذا.. لا يمنع من السير في طريق العمل السياسي؛ ليس لأن لديه ذرة أمل في نجاحه، لأنه موقن بتوسعية إسرائيل، وبأنها منتشية بانتصارها العسكري في 1967. ولكن لسببين محددين؛ أولهما: الحاجة لكسب الوقت لاستكمال الاستعداد العسكري.. لهجوم يحرر الأرض. والثاني: عدم الصدام مع الرأي العام العالمي، الذي يتصور إمكانية الحلول السلمية. 

 وثمة ملاحظات.. توضح إدراك عبدالناصر للمسار السياسي؛ أولاها: أنه ينطوي على تحرير الأراضي العربية المحتلة في 1967 كلها، وليس المصرية فقط. وثانيتها: أنه يعتبر أن أساس هذا المسار – وهو قرار مجلس الأمن 242 – قاصر وغامض، ومع ذلك فهو مقبول مصرياً.. لأنه كاف لتحقيق الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967. بينما من حق الفلسطينيين رفضه، لأنه لا يحل مشكلتهم (فنص القرار على حل عادل لمشكلة اللاجئين، وهو نص مغاير لقرار الجمعية العامة 194 في ديسمبر ..1948 بوجوب عودة اللاجئين، وتعويض من يقررون عدم العودة). وثالثة الملاحظات: أن بناء القوة العسكرية اللازمة للتحرير.. لا مفر منه، بل إنه يمثل أحد عوامل نجاح المسار السياسي، إن كان له أن ينجح. والرابعة: أن عبدالناصر لم ينتظر اكتمال بناء القوة العسكرية.. لتوظيفها ضد العدو، وإنما استخدمها على نحو.. متناسب مع نموها – في إطار من المخاطرة المحسوبة – كإغراق البحرية المصرية المدمرة إيلات في أكتوبر 1967، وحرب الاستنزاف.. التي شهدت بطولات وإنجازات خارقة، حتى تم وقف إطلاق النار في 8 أغسطس 1970. والملاحظة الخامسة: أن عبدالناصر أولى اهتماماً خاصاً ورعاية فائقة.. للمقاومة الفلسطينية، باعتبارها جزءاً من معادلة القوة في مواجهة إسرائيل. 

ثم نأتي للواقعة.. التي تجسد التحليل السابق بامتياز؛ وهي قبول عبدالناصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكي وليم روجرز (في 5 يونيو 1970).. فقد تضمَّن خطابه – بمناسبة عيد العمال في أول مايو 1970 – نداءً إلى الرئيس الأمريكي نيكسون.. يُعَد – في حقيقته – تهديداً مهذباً له؛ فقد طالبه بالعمل على انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، فإن لم يستطع.. يتعين عليه أن يكف عن تسليحها، وإلا فإن هناك لحظة فاصلة قادمة.. في العلاقات العربية-الأمريكية؛ إما أن تكرس القطيعة إلى الأبد، وإما أن تكون هناك بداية أخرى جادة ومحددة.  

وأضاف أن التطورات القادمة، لن تمس العلاقات العربية-الأمريكية وحدها، وإنما ستكون لها تأثيرات خطيرة.. أوسع من ذلك وأبعد، وبعد نحو شهر من هذا النداء/الإنذار، الذي ذهب محللون كثيرون آنذاك.. إلى أنه تهديد بتحول جذري في السياسة الخارجية المصرية، تقدم روجرز بمبادرته الشهيرة؛ التي انطوت على وقف لإطلاق النار لمدة 90 يوماً، ودخول الطرفين في مفاوضات جديدة لتنفيذ القرار 242. 

 … لم يكن عبدالناصر راضياً عن محتوى المبادرة، ومع ذلك فإن قبوله الصريح لها.. في 22 يوليو 1970، جاء بمثابة ضربة معلم.. في إطار نهجه السابق؛ فمن ناحية.. أثبت مرونته في التماشي مع جهود الحل السلمي. ومن ناحية أخرى.. مثَّل فرصة ذهبية له، لاستكمال جدار صواريخ الدفاع الجوي.. وصولاً إلى النسق الأمامي على الضفة الغربية للقناة. (وكانت إسرائيل قد استماتت لمنع استكماله، لأنه كان يعني توفير حرية الحركة للقوات المصرية على الضفة الشرقية، في مدى هذه الصواريخ. ولم يكن عبور القوات المصرية للقناة ممكناً.. دون هذا العمل. وفي إنجاز سوف يخلده التاريخ المصري، استطاعت القوات المسلحة المصرية أن تقفز «قفزة الضفدعة» الأخيرة.. إلى الحافة الغربية للقناة، قبل وقف إطلاق النار بساعات بعمل كان مقدراً أن يستغرق شهوراً.  

وهنا، قامت قيامة من يريدون تشويه الجهد المصري لاستعادة الأرض، ومن لا يحاربون. واتُّهِم عبدالناصر بالتفريط، ونُظِّمَت حملات بالغة الإساءة لشخصه ونهجه، كما بدأت تحركات مشبوهة لتقويض دور مصر، وتشاء الظروف.. أن تتعرض المقاومة لخطر التصفية – من خلال صدامها مع السلطة الأردنية في سبتمبر – فيهب عبدالناصر لإنقاذها، ويدعو لأسرع مؤتمر في تاريخ القمم العربية.. لحقن دماء المقاومة؛ ليُسْتَشْهَد.. وهو يناضل من أجل الحفاظ على المقاومة، التي اتُّهِم بخيانتها.  

وها هو التاريخ يعيد نفسه، على نحو هزلي.. ممن يريدون التمسح بعبدالناصر، لتبرير سياساتهم البائسة. 

نقلاً عن «الأهرام» 

شارك هذه المقالة