Times of Egypt

«ناصر 70».. «حلّوا عنّا»

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة
لم تخلُ فترة ما بعد هزيمة يونيو 1973، وحرب أكتوبر 1973، يوماً من تضحيات وبطولات المصريين؛ وذلك فيما سُمِّي «حرب الاستنزاف»، تلك الحرب التي راح ضحيتها الكثير من المدنيين والعسكريين. في يوليو عام 1970، أعلن «جمال عبد الناصر» قبوله مبادرة وزير الخارجية الأمريكي «وليام روجرز»، التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، لمدة ثلاثة أشهر، يسعى خلالها مبعوث الأمم المتحدة، «جونار يارنج» لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، وذلك للتوصُّل إلى «اتفاق سلام عادل ودائم، يقوم على الاعتراف المتبادل والسيادة ووحدة الأراضي والاستقلال السياسي، وسحب إسرائيل قواتها من الأراضي التي احتلتها في معركة 1967».
بعد قبول كل من «مصر» و«إسرائيل»..مبادرة «روجرز»، بدأت في العالم العربي حملة إعلامية ديماجوجية (شعبية) شرسة ضد «ناصر»، تزعَّمها «الأشاوس»..قادة الجمهوريات العربية «التقدمية»، بالإضافة لقادة الفصائل فى منظمة التحرير الفلسطينية. وصف الأشاوس «ناصر» بالانهزامي الاستسلامي التصفوي، وبدا الأمر سيريالياً عجيباً، لأن واقع الأمر أن هذا «الاستسلامي الانهزامي التصفوي»، هو الذي أضاع عمره – وأعمار آلاف المصريين وأرضهم – في سبيل القضية الفلسطينيّة وقضايا الأمة العربية ووحدتها.. أو – إن شئت – فرقتها. فكأنما الأمر هو أن بضاعة «ناصر» الديماجوجية، وقد رُدَّت إليه، بألفاظها الأثيرة؛ خيانة.. عمالة… استسلام… إلخ.
■ «الحنجوري»، مصطلح عامي مصري، يُنسب للكاتب الصحفي الساخر الكبير، «محمود السعدني»، ويُستخدم المصطلح بين المثقفين.. لوصف من يناضل بحنجرته.. بالكلام والصوت العالي، النضال بالأقوال لا بالأفعال. النضال في الإعلام.. وليس في الميدان. نضال الفنادق وليس نضال الخنادق.
حتى آخر قطرة من دمنا
المقطع الصوتي (27 دقيقة) – الذي أُذيع مؤخَّراً لحديث.. جرى بين «ناصر» و«القذافي»، في شهر أغسطس 1970، قبل وفاة «ناصر» بأقل من شهرين، وعقب قبوله مبادرة «روجرز»، – يُبيّن عن حديث شديد الأهمية. ولعل من أخطر ما يُبين عنه، هو كشف – أو قل فضح – زيف وعبثية الخطاب السياسي «التقدّمي» العربي المُعلن، في تلك المرحلة. فقد كان خطاباً شعبياً «حنجوريا»، يرتكز على خداع القادة لشعوبهم، عبر الصوت العالي، والحماس الزائد أمام الميكروفونات، وحجب الحقائق عن تلك الشعوب. خطاب قادة.. كانوا – في نظر شعوبهم -«مناضلين» من أجل القضايا العربية، وفي القلب منها القضية الفلسطينية. وهم من ذكرهم «ناصر» بالاسم، في حديثه مع «القذافي». أصحاب نظرية «ضرورة وحتمية قتال العدو الإسرائيلي.. حتى آخر نقطة دم، في آخر جندي مصري»، وفي مقدمة هؤلاء المزايدين على الدور المصري.. «القذافي» نفسه.
واحد لعشرة
أتعجَّب ممَّن يزايدون على «ناصر» (نسخة ما قبل 1967، الديماجوجية).. الذين غضبوا – من بث المقطع الصوتي لحديثه مع «القذافي» – واعتبروه اجتزاءً مُخلّاً، يُسيء إلى صورة «ناصر» الأيقونية. في حين أن من يستمع إلى ذلك المقطع «المجتزأ»،يكتشف أن آخر من يُساء إليه – وهم كُثر – هو «ناصر»، ويدرك كيف اختلف «ناصر» 1970،عن «ناصر» 1967، كيف تعلَّم من دروس الماضي – وإن كان ثمن تلك الدروس باهظاً؛ كان دماء المصريين التي سُفكت في اليمن وفي سيناء، وأرض احتُلَّت واقتصاد دُمِّر – أصبح «ناصر» أقل ديماغوجية.. وأكثر واقعية، فهو يقبل «مبادرة روجرز»؛لأنها – كما يقول للقذافي – «قبلت وقف إطلاق النار 3 أشهر.. عشان بيخلوني أتنفّس، لأن فيه استنزاف، وفيه استنزاف مضاد، يعني لما بيموت من عند اليهود عشرة، أنا بيموت من عندي ميّة».
وحينما يُلح «القذافي» – الحنجوري الحربجي – للإسراع بشنّ الحرب على إسرائيل، يصدمه «ناصر» بذكر الحقائق، والواقع المرير على الأرض، ويُبيِّن له مدى التفوق الإسرائيلي.. بالأرقام. وحين يُحدِّثه «القذافي» عن الوحدة العربية، فحدِّث ولا حرج.. فناصر لا يثق بالحكام العرب، فالكل يتآمر عليه.
أما عن استرجاع الأراضي المحتلة عام 1967، فيقول ناصر: «حتى لو كان هاحارب بكرة، لازم لآخر يوم – وأنا ده قلته في ليبيا – هافضل أقول حل سياسي، وإلا قدام العالم.. بخدم إسرائيل، وبديها كل ما تطلبه. أنا بقول: عايز حل سياسي، عايز سلم، لكن أنا برضه بدِّي أقول: إنها مش مناورة للكلام اللي حاصل، أنا بدِّي أقول لك إيماني: إذا لم نستعد الضفة الغربية بالحل السلمي والقدس وغزة، سنبقى سنوات ولن نستعيدها؛ وبهذا تضيع إلى الأبد أرض عربية، وبيُنتفى عنها صفة الأرض العربية، بصرف النظر عن الكلام».
ثمّ يقول «ناصر» – لمُحدِّثه «القذافي» وللمزايدين أمثاله – «إحنا سيبونا إحنا، إحنا ناس استسلاميين وانهزاميين وكذا، ما احناش هانروح المؤتمر، إنتو عايزين القتال والتحرير.. اتفضلوا، الجزائر عايزة قتال وتحرير.. أهلاً، العراق عايزة قتال وتحرير، وسوريا وجورج حبش وياسر عرفات وقحطان الشعبي والا ما عرفش سالم ربيع (اليمن الجنوبية).. اتفضلوا، اجتمعوا، وإحنا هنقاطع الاجتماعات كلها، وحاربوا. وأنا مستعد أديكم 50 مليون جنيه معونة منا.. علشان تحاربوا! عايزين إيه أكتر من كده؟ وحلّوا عنّا!». ا. هـ. فما أشبه الليلة بالبارحة
■ وأخيراً، نقول لأنصار «ناصر 67» – الغاضبين من «الاجتزاء» – إن تفريغ كامل الحديث – الذي جرى بين «ناصر» و«القذافي» بلا اجتزاء – وهو موجود على النت – هو الذي قد يكون مُسيئاً للجميع، وفي القلب منهم «ناصر». ولنا عودة مع هذا الحديث الخطير.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة