Times of Egypt

تسريبات عبدالناصر «1ـ 2»

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد

لا بد – بداية – من الاعتذار للقارئ الكريم عن هذا العنوان غير الصحيح للمقالة، والذي أخذ بالاسم الشائع لعملية نشر وثائق للرئيس جمال عبدالناصر؛ وبالذات الوثيقة المتعلقة بلقائه بالعقيد معمر القذافي في أغسطس 1970، والحقيقة.. أن هذه الوثيقة تنتمي إلى كمٍّ هائل من الوثائق، التى عملت عليها الزميلة العزيزة الدكتورة هدى جمال عبدالناصر لسنوات طويلة.. كلفتها جهوداً فائقة، ناهيك بالتكلفة المادية التي تحمَّلتها.. من أجل جمع هذه الوثائق، وتفريغ المسموع منها وتدقيقه.. بسبب الصعوبات الفنية الهائلة التي واجهتها، نتيجة تهالك بعض الوثائق، وحققت – في هذا الصدد – إنجازات هائلة.. نُشِر الكثير منها، وأصبح متاحاً للباحثين وعموم القراء، حتى أطلقت عليها صفة «جبرتي ثورة يوليو». 

وعندما تجاوز حجم الوثائق طاقة النشر الورقي، أودعتها الدكتورة هدى في مكتبة الإسكندرية.. في أثناء رئاسة الدكتور مصطفى الفقي – الذي تحمَّس للفكرة ووفَّر لها كل مقومات النجاح – ولعلم القارئ الكريم، فإن الدكتورة هدى.. ما زالت تستكمل هذا العمل – وإن أنجزت معظمه – بمساعدة نفر قليل من المساعدين الشباب المخلصين. 

وبالتالي، فنحن لا نتحدث عن «تسريبات»، لأن التسريبات تكون لأشياء سرية، وليست لوثائق متاحة للجميع، لا يتطلب الاطلاع عليها حتى الذهاب للمكتبة، وإنما الدخول على موقع «ناصر» بها.. الذي يضم كل هذه الوثائق الثمينة، التي تُمكِّن الباحثين من الدراسة العلمية لتجربة عبدالناصر.

لكن ثمة اعتباراً آخر.. يتعلق بما سُمي خطأً تسريبات عبدالناصر، وهو أن الكتابات والمداخلات القيِّمة – التي شاركت في التعليق على ردود الفعل، التي أعقبت إذاعة هذه الوثيقة – أوضحت أن التسجيل الصوتي الذي أُذيع.. بخصوص لقاء عبدالناصر القذافي، ليس تسجيلاً نصياً، وإنما تم تحريره – بمعنى حذف أجزاء منه – ولأني لم أطلع على النص الأصلي المكتوب.. للوثيقة، فقد كان أول من لفتني لاجتزاء الوثيقة، هو الدكتور عبدالحليم قنديل.. في تعليقه بقناة «سكاي نيوز عربية». ثم في مقالة بعنوان «رداً على غارات تزوير عبدالناصر». 

وكان قنديل قد استفاد كثيراً من الجهد الذي سبقت الإشارة إليه.. للدكتورة هدى عبدالناصر، كما ظهر في كتابه القيِّم «عبدالناصر الأخير»، الذي صدر العام الماضي. وقبل مقالة الدكتور قنديل بيوم، تناول الكاتب الكبير الأستاذ عبدالله السناوي ذات الموضوع.. في مقالة بعنوان «تسجيلات عبدالناصر.. ما هكذا تُقرأ الوثائق»، استشهد فيها بمقاطع من النص الأصلي – لم ترد في التسجيل المذاع – يؤثر حذفها على المضمون دون شك.. كما سيرد لاحقاً.

 وقد لجأت للباحث الشاب القدير أحمد كامل البحيري – الذي تناول الموضوع نفسه بالتفصيل.. في إحدى الفضائيات العربية – فأكد لي.. بالدقيقة والثانية، مواقع الحذف ومدته، وأهمية المحذوف.. بالنسبة للحكم على موقف عبدالناصر من القضايا التي تناولها التسجيل. ولا يوجد أدنى شك.. في النيات الحسنة للجهة التي أذاعت النص المُحَرَّر للتسجيل. بل لقد بدا من أحد التصريحات، أن الغرض هو إثبات رشادة سياسة عبدالناصر.. في إدارة الصراع. 

وهنا، من الواجب توجيه النُصح بعدم تكرار هذا العمل (أي الحذف من نصوص وثائق معينة) إلا بناءً على مشورة علمية دقيقة، وفي إطار من الشفافية الكاملة، لأن ما حدث – كما سيجيء – أن خصوم عبدالناصر ومصر، وأنصار توجهات معينة.. قد استغلوا التسجيل المجتزأ، للترويج لأفكار مغلوطة وخطيرة. 

وبعد هذه الملاحظات الأوَّلية.. على طبيعة ما سُمي «تسريبات لقاء عبدالناصر القذافي»، أنتقل إلى أن الفهم الدقيق لمضمون ما ورد في التسجيل، لا يمكن أن يتم.. دون وضعه في سياقه الزمني، وهو سياق مزدوج؛ فثمة سياق يتعلق بتوقيت اللقاء، وآخر يتعلق بتوقيت إذاعة التسجيل. 

أما توقيت اللقاء، فهو يوم 2 أغسطس 1970 – أي بعد قبول عبدالناصر رسمياً مبادرة وزير الخارجية الأمريكية ويليام روجرز بـ 10 أيام؛ حيث أعلن قبولها في خطاب الاحتفال بعيد الثورة في 23 يوليو 1970، ومعروف أن هذا القبول، كان بداية لعاصفة من الانتقادات والاتهامات بالاستسلام، من قِبَل دوائر عربية بعينها.. كانت تُصَنَّف باعتبارها تُعبِّر عن النظم الثورية العربية، كتلك التي كانت موجودة في العراق وليبيا والجزائر وسوريا وجنوب اليمن. ولأن عبدالناصر كان أصلاً.. هو قائد موجة التغيير الثوري في الوطن العربي، فإن هذه الوقائع تُذكِّرنا – للأسف – بظاهرة الصراع بين النظم العربية الثورية، وكيف كانت شدته تزيد أحياناً.. عن مثيلتها بين النظم الثورية، وتلك المحافظة في الوطن العربي. بل إن عدداً من هذه النظم كان قد بدأ يتحرك.. باتجاه تقويض الدور القيادي المصري في معركة إزالة آثار العدوان، وإخضاع السياسة المصرية لتحالف عربي.. يتبع نهجاً في إدارة الصراع، مغايراً للنهج الذي كان يتبعه عبدالناصر، والذي سوف يتناوله تفصيلاً الجزء الثاني من هذه المقالة.

 ولذا، كان عبدالناصر آنذاك في قمة غضبه.. من أولئك الذين لا يسهمون بأي شيء في المعركة، ويريدون التحكم بمصر وسياستها. وهو الغضب الذي تظهر أصداؤه في ثنايا التسجيل.. كما لاحظ كل من سمعه. 

وأما توقيت إذاعة الشريط، فيشهد توجهاً موجوداً في الوطن العربي – بعد أحداث المواجهة في غزة – التي امتدت لخمسة بلدان أخرى على الأقل؛ ومفاد هذا التوجه.. هو الحكم بحماقة المقاومة الفلسطينية، وكل من ساندها، ومسؤوليتها عن الدمار والقتل.. الذي لحق بغزة وغيرها، ومن ثم فقد آن أوان إلقاء السلاح.. حتى ولو تم ذلك دون مقابل. 

وقد وجد أنصار هذا التوجه ضالتهم.. في التسجيل المجتزأ، فزعموا أنَّ عبدالناصر أسقط الخيار العسكري، وتخلى عن القضية الفلسطينية، وهو تشويه تام لنهجه في إدارة الصراع مع إسرائيل، كما ستحاول المقالة التالية أن تُثْبِت في الأسبوع القادم بإذن الله.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة