Times of Egypt

بين «صراع الوجود» و«صراع الحدود»! 

M.Adam
محمد عبدالشفيع عيسى 

محمد عبدالشفيع عيسى 

قد يتصور البعض أن ما يسمى تاريخياً بـ «المشكلة اليهودية»، يتعلق أساساً بالمنطقة العربية الإسلامية؛ سواء بمعناها الضيق أو بمعناها الواسع. وهذا خطأ علمي وعملي جسيم؛ فالمشكلة اليهودية – باعتبارها مشكلة تمثل نوعًا من التعبير.. عن عدم التوافق الاجتماعي بين عدد من المكونات الديموغرافية – لم تكن يوماً ذات صلة بواقع المنطقة العربية-الإسلامية، إلى حد كبير؛ فقد عاش أتباع الديانة اليهودية في نوع من الوئام النسبي بدرجة عالية.. مع المكونين الإسلامي الغالب، والمسيحي (الأقلَّوي بمعنى ما)، منذ برزت الكتل الاجتماعية الكبرى – كما نعرفها الآن – تقريباً.. في العصرين الوسيط والحديث. 

إنما كانت المشكلة اليهودية.. مشكلة (أوروبية) بالأساس؛ خاصة في ضوء الوضع الملتبس للكنيسة الأوروبية.. في داخل الكيان السياسي والاجتماعي للعالم الأوروبي، طوال العصرين المذكورين، وما ولَّده من نزاعات «انغلاقية» من المذاهب المسيحية.. تجاه بعضها البعض (الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية)، ومنها عامة تجاه غير المسيحيين – من المسلمين واليهود – بصفة نسبية.. على كل حال. 
هذا ما يفسر الاضطهاد الذي لاقاه «المختلف» في الديانة والمذهب، بل والذي لاقاه من يعتنق فكراً مخالفاً، ولو كان على أساس علمي معين، كما في حالة الخلاف حول كروية الأرض على الخصوص. 

وتنبغي الإشارة هنا، إلى ما لاقاه عرب الأندلس المسلمون، وكذلك اليهود، على أيدي المتغلبين الإسبان.. أواخر العصور الوسطى؛ وخاصة قبل ما يسمى (سقوط الأندلس).. في نهاية القرن السادس عشر. ويُذكر هنا، أن العرب المسلمين.. تولوا حماية اليهود – بمعنى ما – واحتضانهم.. بعيداً عن مواضع الاضطهاد المظلم، وإلى حيث سُمح لهم بحرية نسبية للاعتقاد.. في مهجرهم (الجديد.. آنئذ) في المغرب الأقصى بالذات. إنما ظلت المشكلة اليهودية عالقة في كل من أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية – بصورة أو أخرى – طوال العصر الحديث، وحتى أواخر القرن التاسع عشر إلى حد كبير. 
*** 
على مر الزمن، في العصرين الوسيط والحديث، تم التعبير عن المشكلة اليهودية.. كما تبلورت في أوروبا الشرقية بالذات؛ من خلال مفهوم.. ما يسمى «الجيتو»، حيث الانعزال الديموغرافي والاجتماعي للأقليات اليهودية؛ بما حمله ذلك من شبهات الاضطهاد، وتقييد حرية التعبير.. بدرجات متفاوتة. من هنا تولد نوع من الشعور بالمهانة.. لدى أعداد كبيرة من الأقليات اليهودية الأوروبية، وتضخم الدافع نحو البحث عن مخارج محتملة.. لحل «المشكلة». 

 
في هذه الأجواء، انعقد (المؤتمر اليهودي الأول) – بزعامة تيودور هرتزل عام 1897 – بمخرجاته المختلفة. مع اندماج رأس المال اليهودي الاحتكاري.. في مجال المال والمصارف. ومع الشعور بالعزلة والاضطهاد، تولَّد نزوع نحو البحث عن مخرج «سياسي» و«خارجي» للمشكلة اليهودية. ذلك ما تبلور في سعي (الملياردير) اليهودي «روتشيلد».. لدى السلطان عبد الحميد، ثم لدى بريطانيا بعد فشل السعي «العثماني». 

وكان أن صدر عن وزير خارجية بريطانيا.. ما سُمِّي (وعد بلفور) في الثاني من نوفمبر عام 1917، بالمساعدة على منح اليهود نوعاً من (الملاذ ذي الطابع الوطني) National homeland في فلسطين. 
أصبح المسعى البريطاني-اليهودي ممكناً.. بحصول بريطانيا على وضعية «الانتداب» البريطاني على فلسطين، بعد الحرب العالمية الأولى المنتهية في عام 1919. وهكذا مضت بريطانيا لتمكن من زيادة الهجمة اليهودية.. من الغرب والشرق إلى فلسطين. 

تمكَّن اليهود المهاجرون في فلسطين من بناء نويات تأسيسية لوجود اجتماعي وسياسي، وخاصة من خلال (الوكالة اليهودية). وجاءت المقاومة الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر – وخاصة ثورة (عز الدين القسام) عام 1936 – ليصبح الصدام حتمياً بين الطرفين. ومع تزايد نفوذ الوكالة اليهودية.. بدعم مباشر وغير مباشر من دولة الاحتلال/الانتداب (بريطانيا)، تكونت جماعات اقتصادية وعسكرية يهودية مسلحة، على شكل عصابات.. مدعومة من المستوطنين الزراعيين الجدد في أرض فلسطين. وكان ما كان من التهاب البارود.. بعد الحرب العالمية الثانية، حتى وقعت ما تسمى (حرب فلسطين) ثم (النكبة) عام 1948. 

في أتون حرب فلسطين، وما تلاها من تطورات جسام – ليس هنا مجال ذكرها – وُلدت ما سُميت بإسرائيل، وحصلت على عضوية الأمم المتحدة، فاعتُبرت دولة من بين أعضاء المجتمع الدولي المنظّم. وبدلاً من بريطانيا – التي خفَت ذكرها – أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية.. هي الراعية والحامية للكيان الصهيوني.. اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من كل باب. وفي أجواء عاصفة متتالية – ليس هنا مجال ذكرها أيضاً – في ظروف كانت ملتبسة جداً، ولم تزل – شنت إسرائيل عدوان يونيو 1967، فاستولت بغتة – وبدون حرب حقيقية – على سيناء وغزة والضفة الغربية والجولان. 
*** 
بعد عام 1967، تعاظمت قوة حركة المقاومة الفلسطينية من جهة أولى، وتمت الاستعدادات العسكرية العربية.. لإزالة آثار العدوان من جهة ثانية. وهذا ما حدث بعد ذلك، بشكل معين.. من خلال حرب أكتوبر 1973. ومنذ 1967 ثم 1973، حدث أمران متلازمان: ثقة إسرائيلية زائدة بالنفس.. ومن ثم صعود نزعة بالغة العنصرية. وشعور بالخطر الشديد.. من جراء القدرة العربية المحتملة. 

من الثقة الإسرائيلية، والنزعة العنصرية البالغة، قويت الأجنحة المتطرفة – والأشدّ تطرفاً – في الحركة الصهيونية، وبدأت تجربة قوتها عند الفلسطينيين في الضفة وغزة وجنوب لبنان وسوريا، وأصبحت عقيدتها الأساسية.. أنها (حرب وجود) ضد الشعب العربي الفلسطيني. أما العرب والفلسطينيون؛ فمن الجانب «الرسمي».. تبنّوا «حرب حدود» بصفة أساسية. عدا الجناح المسلح المقاوم (مثل حماس والجهاد خاصة). 

كانت عملية السابع من أكتوبر 2023.. من «حماس»، تأكيداً على مذهب (حرب وجود).. لدى جانب قوي نسبياً من العرب والفلسطينيين، مقابل حرب اليمين الصهيوني المتطرف.. كما بدا من بعض الظاهرة أسماؤهم في الإعلام هذه الأيام. 

قام اليمين الصهيوني المتطرف.. بتجربة (حرب الوجود)؛ من خلال (حرب الإبادة) في غزة 2023-2025.  

ويبدو أن حرب الوجود الثنائية – على الطرفين الفلسطيني والصهيوني – سوف تستمر لأمد بعيد نسبياً. فكيف نستعد لما هو قادم..؟ هذا هو السؤال. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة