سمير مرقص
تُعد مدينة القدس إحدى أهم المدن التي عرفها التاريخ الإنساني، لذا سُميت بـ «أم المدن» – كذلك «زهرة المدائن» – فهي المدينة التي وصفناها مرة بأنها.. المدينة التي يتجلى فيها اللقاء الحي بين الأديان على مستوى البشر والحجر، ما جعلها تجسد ــ بامتياز ــ تعددية دينية وحضارية وثقافية وعمرانية.
إلا أن الناظر لحال القدس على مدى القرن المنصرم، تقريباً، لن يجهد كثيراً في أن يكتشف أنه – خلال عقود هذا القرن – عملت دولة الاحتلال بشتى الوسائل، على أن تستفرد وتستأثر «بزهرة المدائن»؛ من خلال العمليتين التاليتين: العملية الأولى: تهويد المدينة، والعملية الثانية: تغيير «ديموجرافيتها» ومعالمها بالتمام، وذلك لإسباغ الطابع الأحادي.. الديني؛ على المدينة من جهة، ولتكون «القدس» العاصمة السياسية لدولة الاحتلال من جهة أخرى. ولا خلاف على أن هاتين العمليتين – اللتين دأبت دولة الاحتلال على ممارستهما لعقود – ليستا بعيدتين عن السلوك العنصري والإقصائي والتوسعي، الذي سلكه الكيان الاستيطاني حيال مجمل الشأن الفلسطيني: الأرض والشعب.
إن كلاً من عمليتي الاستئثار والاستفراد قد بدأتا منذ وقت مبكر، يعود إلى حكم الانتداب البريطاني (1920 ــ 1948)؛ حيث حرصت الحركة الصهيونية على زيادة عدد اليهود للإقامة في المدينة من جانب، وزيادة ممتلكاتهم في القدس من جانب آخر. وفي سنة 1941 أعلن حاييم وايزمان أن فلسطين سوف تصبح دولة يهودية.. مستغلاً حاجة البريطانيين إلى مساعدة الرأسمالية الصهيونية في الحرب العالمية الثانية، وهو ما هيأ الظروف كي تعمل الحركة الصهيونية – بدعم بريطاني أمريكي، خلال الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها – لإتمام إنشاء الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين.
في هذا السياق، تجدَّد الحديث.. الذي بدأ مع مطلع القرن التاسع عشر حول: تدويل القدس، وممارسة السيادة عليها من قبَل «الهيئة الدولية»، أو إن شئت فقل من قبَل القوى الكبرى والاستعمارية صاحبة التأثير في مباشرة هذا التنظيم الاستثنائي وإدارته لاختصاصاته، والمؤسسات الدينية الغربية (للمزيد من التفاصيل حول المسار التاريخي للتدويل من 1815 على 1947، يمكن الرجوع إلى عز الدين فودة في كتابه العمدة: قضية القدس في محيط العلاقات الدولية ـ 1969). وعليه تم الربط بين تدويل القدس وبين تقسيم فلسطين، في صلب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947.
ترتَّب على ما سبق: الفصل بين فلسطين وتقسيمها، وبين القدس وإدارتها. استغلت إسرائيل واقع أن الوضع الاقتصادي للمنطقة المُدوَّلة.. لا يسمح لها بالاستقلال بمواردها، فعمدت إلى تشجيع اليهود – الوافدين من أوروبا – على السيطرة الرأسمالية عليها. ولم تنتظر الجهود الدولية لوضع نظام مقبول من كل الأطراف.. على كيفية إدارة نظام التدويل، إذ مضت إسرائيل قدماً في السيطرة على القدس؛ فأعلنت رسمياً في 11 ديسمبر 1949.. نقل عاصمتها إلى القدس. وفي 26 ديسمبر من نفس السنة، انعقد الكنيست الإسرائيلي منذ إنشاء دولة إسرائيل في 14 مايو 1948. كما سعت في صيف 1954 إلى أن يقدم السفراء الأجانب أوراق اعتمادهم بالقدس، حتى وإن لم تكن دولهم قد أسست بعد سفارات في المدينة المقدسة.
ويشار هنا إلى أن السفيرين البريطاني والأمريكي.. قد قدما أوراق اعتمادهما في نهاية سنة 1949، وبهذه المناسبة نشير إلى خطاب السفير الأمريكي – الذي أرسله حينذاك والذي حمل الكثير من الإشارات المهمة التالية – «لا يسعني إلا الفخر بما قامت به بلادي، في سبيل إنشاء بلادكم. وإنه لجدير بنا – نحن الأمريكيين الذين ندين بحضارتنا إلى الكثير من إلهام أنبياء بني إسرائيل – أن نعمل متحدين مع أحفادهم في المهمة العظمى، وهي بناء أمة حديثة في الأرض القديمة».
وعلى مدى أكثر من 75 سنة، استمرت سياسة الاحتلال.. على الفصل بين القضية الفلسطينية وأحد أهم عناصرها الحيوية؛ ألا وهي مسألة وضعية القدس. والمفارقة أنه – وبعد الانخراط في العملية السلامية بداية من مؤتمر مدريد سنة 1991 – نجح اللوبي الإسرائيلي واليمين الديني المتشدد في الولايات المتحدة الأمريكية.. أن «يشرعن» التأييد الأمريكي المبكر لإسرائيل عموماً، والمساندة الأمريكية المبكرة لها.. فيما يتعلق بالقدس خصوصاً – التي أشرنا إليها – من خلال «القانون بقرار» – الذي صدر عن الكونجرس في 1995 – وموضوعه: «نقل السفارة الأمريكية إلى القدس»؛ الذي أشرنا له في دراستنا المبكرة، قبل ربع قرن، المعنونة: «الصهيونية ذات التوظيف المسيحي والتمييز الديني المطلق لإسرائيل»، الذي جاء في حيثياته وديباجته نصاً أن: «مدينة القدس هي المركز الروحي لليهودية، كما أنها تُعد مدينة مقدسة من قبَل الأعضاء المنتمين لمعتقدات دينية أخرى». ويؤكد هذا النص ليس فقط على يهودية المدينة، وإنما على أنها المركز الروحي لليهودية دون تسمية الأديان الأخرى:
The City of Jerusalem is the spiritual center of Judaism, and is also considered a holy city by the members of other religious faits.
وهو القانون الذى لم يُفعَّل.. إلا في العهد الأول من الزمن الترامبي.
في هذا الإطار، يأتي اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي المسجد الأقصى.. ثالث أيام عيد الفطر المبارك، في ظل حماية شرطية، حلقة ضمن سلسلة طويلة ممتدة من الانتهاكات للمسجد: الرمز، إضافة للتحرشات الكثيرة التي تتعرض لها المقدسات والممتلكات المسيحية منذ زمن.
ومن ثم كان لابد من وقفة.. وهو ما جسَّده بيان الخارجية المصرية؛ التي حذَّرت من «محاولات المساس بالمقدسات الدينية في القدس»، إذ سيكون له «تداعيات خطيرة على السلم والأمن»، ومن ثم «استنكارها وإدانتها الشاملة».. لما رأته «انتهاكاً سافراً للقانون الدولي، ومصدراً رئيسياً لحالة عدم الاستقرار بالمنطقة»، ومحذرة من «مغبة الاستمرار في هذا النهج الشديد الاستفزاز والتهور»، ومشددة على «ضرورة الحفاظ على الوضع القانوني والتاريخي للمقدسات الدينية في القدس»، وإلا ستتولد «موجة غضب واسعة قد تتسبب في تفجر الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط». وهو موقف يأتي امتداداً «للاءات المصرية التاريخية» التي عبَّرت عنها مصر الرسمية والشعبية لتصفية القضية الفلسطينية، وفرض سلام منزوع العدل والشمول والاستدامة، واستلاب القدس العربية المسيحية الإسلامية.
نقلاً عن «الأهرام»