Times of Egypt

محاكمة فرنسوا بورجا 

M.Adam
نيفين مسعد

د. نيفين مسعد 

في الرابع والعشرين من الشهر المقبل تجري محاكمة المفكر الفرنسي الكبير فرنسوا بورجا.. بتهمة تمجيد الإرهاب، وذلك على خلفية موقفه الرافض للعدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، واعتباره أن عملية طوفان الأقصى.. ستؤدي – على المدى المتوسط – إلى اختفاء إسرائيل. 

رفض بورجا تصديق الأكاذيب.. التي يرددها الإسرائيليون، دون أن يفلحوا في تقديم دليل واحد يؤيدها، التي تدور حول الانتهاكات الجنسية التي قامت بها حركة حماس مع الأسيرات. وكتب على منصة «إكس».. إنه يثق في الحركة. كان هذا الموقف سبباً في تحريك الدوائر الصهيونية دعوى قضائية ضده، واعتقاله، والتحقيق معه، ثم إطلاق سراحه.. في انتظار مثوله أمام القضاء. وبصفة عامة، فإن هذه ليست هي المرة الأولى، التي يؤاخذ فيها بورجا على مواقفه من القضية الفلسطينية. فقد سبق اتهامه مرات عديدة.. بمعاداة السامية، لإقدامه على انتقاد السياسات الإسرائيلية. لكن هذه هي المرة الأولى التي يتم تقديمه فيها للمحاكمة. 

عرفت فرنسوا بورجا عن قرب، عندما انتقل للعمل في القاهرة.. في المركز الفرنسي للدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية (سيداچ) في عام 1989 لمدة أربع سنوات. فقد ترافقت بداية عمله بالقاهرة، مع انطلاق ثاني الندوات المصرية-الفرنسية.. التي كان ينظمها مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، بدايةً من عهد الدكتور علّي الدين هلال بالتعاون مع السيد اچ.. تحت إدارة چون كلود ڤاتان. 

هذه الندوات – التي بدأت أولاها في عام 1988، تحت عنوان «التحولات السياسية الحديثة في الوطن العربي» – كانت تهدف إلى دراسة أبرز التطورات المجتمعية في المنطقة العربية.. من المنظورين المصري والفرنسي. وهكذا توالت الندوات المشتركة.. تحت مسميات مختلفة منها: العالمية والخصوصية في دراسة المنطقة العربية، والعنف السياسي من منظور مقارن، والتطور الديمقراطي في الوطن العربي، والليبرالية الجديدة. وجرت العادة على عقد هذه الندوات بالتبادل بين مصر وفرنسا، وعلى نشر أعمالها باللغتين العربية والفرنسية، وكانت تمثّل فضاءً واسعاً.. للتفاعل بين الثقافتين المصرية والفرنسية، وشاركَت فيها أسماء كبيرة؛ مثل چون لوكا، وبرتران بادي، وآلان روسيون، والسيد يس، وقدري حفني، ومصطفى كامل السيد، ونازلي معوّض.. التي حافظت على الاستمرارية، بعد توليها إدارة المركز. ووسط هذه الأسماء الكبيرة، برز اسم فرانسوا بورجا، وكان قد ألّف لتوِّه كتابه – الذي أحدث ضجةً كبيرة حال نشره – كتاب «الإسلام السياسي: صوت الجنوب». 

يمثل هذا الكتاب حجر الزاوية.. في فكر فرنسوا بورجا. ومن خلال قراءته، يمكن فهم منهجه الخاص في تحليل ظاهرة الإسلام السياسي. يعتبر بورجا أن الإسلاميين.. هم التعبير الحقيقي عن الشعوب العربية، وهو بذلك يقترب من النظرة الأمريكية لحركات الإسلام السياسي، التي تعتقد أنها الأنسب للحكم في المنطقة. وعند بورجا، فإن الحركات الإسلامية أتت كرد فعل على الخبرة الاستعمارية الغربية، التي تعرَّضت لها الدول العربية. وعندما انزلقت هذه الحركات إلى ممارسة العنف السياسي فإن ذلك – حسب بورجا – كان بسبب الاستبداد المدعوم من الغرب، وبالتالي فإنه يرى أن حركات العنف السياسي، تعود جذورها إلى إحباط تجربة مصدّق الديمقراطية.. في إيران عام ،1953 وليس إلى اندلاع ثورة الخميني في عام 1979. ويؤمن بورجا أن الإسلاميين لا يخاصمون الديمقراطية، ولا يتخذون موقفاً منحازاً ضد المرأة، وله رأي متفائل – على سبيل المثال – بالتجربة السورية، ويعتقد في إمكانية تطوُّر الحكام الجدد نحو الاعتدال، بشرط توفُّر الدعم الخارجي لها. 

هذه الآراء جميعها قابلة للنقاش.  

وعلى المستوى الشخصي.. أختلف معها، إذ أستطيع – مثلاً – أن أحاجج بورجا في إعجابه بديمقراطية حركة النهضة في تونس.. من خلال قيامي بتحليل ممارساتها خلال العشرية التي تصدَّرت فيها المشهد التونسي.. منذ ثورة الياسمين، فسواء كان نظام الحكم نظاماً برلمانياً قحّاً – كما كان الحال في عهد الرئيس منصف المرزوقي – أو كان نظاماً مختلطاً.. في ظل الرئيس قيس سعيد، قبل التعديلات الدستورية الأخيرة، فإن حركة النهضة كانت تجور على صلاحيات الرئيس، حتى إن المرزوقي – المتعاطف بشدة مع «النهضة» – ذكر يوماً أنه تلقّى طعنة في الظهر.. من رئيس حكومة النهضة حمّادي الجبالي، واضطر قيس سعيد إلى تذكير الغنوشي بأن تونس لها رئيس واحد. 

وليس صحيحاً بالضرورة، أن اعتدال الحركات الإسلامية مرتبط بانفتاح الأفق السياسي؛ فالمسألة لها علاقة بطريقة قراءة النصوص الدينية وشرحها وتفسيرها، ففي عزِّ انفتاح الجزائر على التعددية السياسية والحزبية – في عامي 1989 و1990 – قال علي بن حاج، أحد زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ.. إن الديمقراطية كُفر. 

ويمكن محاكمة أطروحة بورجا أيضاً، حول موقف الحركات الإسلامية المعادي للغرب الاستعماري. وعلى حد تعبير أحد المحللين.. إذا كانت المسألة تتعلَق بمقاومة الاستعمار الغربي، فلماذا لم تتعاون تلك الحركات مع الاتحاد السوڤيتي.. حين كان يدعم قضايا التحرر الوطني، ولماذا يلوذ قادة الحركات الإسلامية بعواصم الغرب المحتَل؛ أكانت لندن أو باريس أو واشنطن؟ أما موقف الحركات الإسلامية من المرأة، فإنه يحتاج مقالاً منفصلاً. 

هناك – إذن – الكثير الذي يمكن قوله عن منهج فرنسوا بورجا.. في تحليل حركات الإسلام السياسي، واعتبارها حصرياً.. هي الصوت المعبّر عنّا نحن أهل الجنوب. لكن عندما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية، يختلف الأمر اختلافاً جذرياً، فنحن إزاء شعب واقع تحت الاحتلال، وله الحق في تقرير مصيره.. بمقتضى القانون الدولي. ويتم قمع نضاله من أجل التحرر، بآلة عنف جهنمية، على يد نظام عنصري.. يخضع قادته لملاحقة المحكمة الجنائية الدولية، ومتهمون بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.. أمام محكمة العدل الدولية.  

وكون الغرب يحاول التطهُّر من تاريخه في اضطهاد اليهود، أو يخضع لابتزاز الصهيونية العالمية، وتحكُّمها في مراكز صنع القرار السياسي والاقتصادي في العالم، فإن هذا لا يغيّر شيئاً من التكييف القانوني للقضية الفلسطينية، ولا ينفع معه التهرُّب من هذا التكييف.. عن طريق وصف كل الذين يؤيدون الحق الفلسطيني.. بأنهم معادون للسامية. وعندما يأتي توجيه تهمة «تمجيد الإرهاب».. لمفكر في قيمة فرانسوا بورجا؛ لمجرد أنه جاهر برفض العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني، فإن هذا يُعد جزءاً من الحملة الغربية الأوروبية-الأمريكية ضد المثقفين والأكاديميين.. المجاهرين بعدالة القضية الفلسطينية. ولذلك، فإن الدعم واجب لفرانسوا بورجا على موقفه الموضوعي.. الذي ينتصر للحق، ويرفض ازدواجية المعايير الغربية. وكل الاحترام لشجاعته، التي جعلته يعتبر تحويله للمحاكمة «أفضل وسام من الرئيس ماكرون». 

نقلاً عن «الأهرام« 

شارك هذه المقالة