Times of Egypt

المذهبية السياسية والهوية والحروب الأهلية

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح


الصراعات المذهبية المسيَّسة.. باتت تشكل إحدى سمات الجغرافيا الدينية والمذهبية في المنطقة العربية،
وتشمل الأديان السماوية – خاصة الإسلام والمسيحية – وهو ما يؤدي إلى تديين النزاعات الاجتماعية، ويؤثر
على السلام الاجتماعي، والاستقرار السياسي، بقطع النظر عن السياسة الدينية والمذهبية للسلطات، لأنها
باتت جزءاً من الثقافة الدينية الشعبية، ومحمولاتها من المرويات المتوارثة والأساطير، والإدراكات والصور
النمطية عن الآخر الديني والمذهبي. من ثم الصور النمطية عن الآخر المذهبي – داخل ذات الدين – الموروثة
في الثقافة الدينية الشعبية والوعي الجمعي، وتعيد إنتاج التناقضات، والخلافات، وسردياتها.. على نحو مشوه
في العقل شبه الجمعي، داخل كل جماعة من الجماعات المذهبية والعرقية والقبائلية والعشائرية في
المجتمعات الانقسامية العربية.

بعض السياسات التعليمية، والمناهج المقررة.. في بعض النظم التعليمية العربية، تميلُ إلى تبني التصورات
الشائعة عن المذاهب الدينية الأخرى.. داخل متون مذهبها التاريخي، وبعضها الآخر لا يتناول ذلك إلا من
خلال الدروس الدينية في منهج الدراسة الديني، الذي تلعب خلاله جماعات المعلمين والمعلمات – أياً كان
مستواهم العلمي والثقافي والديني – دوراً في إشاعة الصور النمطية في شروحهم للدرس الديني، أو دروس
اللغة العربية، أو في قيام بعضهم بتضمين آرائه المذهبية.. في دروس العلوم الاجتماعية، وترويج التصورات
الموروثة والشائعة، أو آراء بعض الجماعات الدينية.. التي ينتمي إليها بعضهم تنظيمياً، أو اقتناعاً بها دون
الانخراط في أنشطتها الدينية والسياسية والاجتماعية.. في الحركات الإسلامية المعاصرة، والفكر الديني
المذهبي الأقلوي أو الأكثري. غالباً في نظام التجنيد داخل بعض هذه الجماعات، ما يتم التركيز على دور
المدرسين، والدعاة، والمسجد.. كمؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والدينية.. في الترويج للخطاب
المذهبي ومحمولاته، وحدوده وتمايزاته عن المذاهب الدينية الأخرى.

مخاطر هذه الخطابات المذهبية – وسردياتها ومواريثها التاريخية – أنها تتمركز على الذات المذهبية
الجماعية، ومعتقداتها وطقوسها، ولاهوتها؛ على نحو جعل بعض الغلاة من الباحثين في الأديان المقارنة،
يصف كل مذهب ولاهوته، وتاريخه بأنه بات يمثل ديانة لها أتباع، وهو ما يعني لديهم أن الإنتاج اللاهوتي

المذهبي التاريخي والمعاصر.. بات يشكل ديانة في العقيدة والطقوس، واللاهوت، والوعي الديني.. لدى
المؤمنين بهذا المذهب، أو ذاك. بعض رجال الدين الكبار حاولوا كسر بعض الحدود الفاصلة بين المذاهب
المسيحية.. من خلال الحركة المسكونية، والحوار، والتفاعلات اللاهوتية، وأيضاً عبر طرح القضايا
المعاصرة، وتحديات الحياة في عالم مختلف على العقل المسيحي المتعدد.

بعض الاتجاهات الإصلاحية الإنسانوية – من رجال الدين والمفكرين والفلاسفة – مع الاتجاه العولمي الكاسح،
والتناقضات والصراعات الإقليمية والدولية – ساهمت من خلال بعض المنظمات الدولية، أو مراكز البحث
في السعي نحو الحوار حول القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة؛ كالإخاء، والمساواة، والحب، والعدالة،
والمواطنة، والتعدد الإنساني في الأديان والمذاهب – السماوية والوضعية – لإيجاد المشتركات الإنسانوية في
عالمنا! بعض هذه الحوارات المهمة، ركزت على قيم الحياة الكونية المشتركة.. في عالم بالغ الصعوبة
والسيولة وعدم اليقين.

هذه المحاولات لم تحقق نتائج مؤثرة.. على أهميتها. ومرجع ذلك، أن التسييس المذهبي داخل الديانة الواحدة،
وراءه مواريث تاريخية متراكمة، وخاصة في المجتمعات خارج المركز الأوروبي، وخاصة في بعض
مجتمعات القارات الثلاث ومنطقتنا العربية. بعض الدول الأوروبية الرأسمالية الكبرى، والليبرالية.. وظفت
الدين والمذهب والقيم الليبرالية في مواجهة الاتحاد السوفيتي السابق.. داخل دول الكتلة الشيوعية، كجزء من
الحرب الباردة الأيديولوجية. وساهمت هذه السياسة – ضمن عوامل أخرى – في انهيار الاتحاد السوفيتي
والكتلة الشيوعية. لم يقتصر توظيف الدين والمذهب ضد الإمبراطورية الماركسية، وإنما تم توظيفه من
الاستعمار البريطاني البغيض.. في مواجهة حركات التحرر الوطني.. على نحو ما تم في مصر – على سبيل
المثال – من دعم جماعة الإخوان المسلمين في مواجهة حزب الوفد، والأحرار الدستوريين.

لا شك أن تحوُّل المذهبية الدينية السياسية.. إلى مكون رئيس في ثقافات المجموعات الانقسامية.. في
المجتمعات والدول العربية ما بعد الاستقلال، فاقم من تسييس المذهبية السياسية، وتحولها إلى تناقضات
وصراعات هوياتية حادة.. داخل ذات الدين الواحد، وحرص الأنظمة المذهبية والسلطوية على توظيف
الصراعات المذهبية.. في الهيمنة على المجتمع ومكوناته الأساسية، ما ساهم – ولا يزال – في الحيلولة دون
بناء موحدات جامعة، تتجاوز التمايزات والخلافات المذهبية، وصراعاتها الهوياتية، والفشل النسبي في
تشكيل وبناء وطنية جامعة.

تفاقمت مسألتا الهوية القومية الجامعة، والأيديولوجيا البعثية.. في ظل انهيار الأيديولوجيات والسرديات
الكبرى، مع سقوط الإمبراطورية الماركسية السوفيتية، ونهاية الحرب الباردة، وتحول المجتمعات العربية،
وبعض نظمها التسلطية.. إلى سياسات التحول إلى الرأسمالية، والمشروع الخاص، وأيضاً ثورة الاستهلاك
المفرط.. حتى في دول العسر العربية. نهاية الأيديولوجيات الاشتراكية، والماركسية، والقومية، وحركات
التحرر الوطني.. أسهمت في إنماء وانفجار الهويات المذهبية السياسية وسردياتها، في مواجهة بعضها بعضاً.

من هنا تبدو خطورة وجسامة التوظيفات السياسية السلطوية المذهبية.. في مشكلات وأزمات بناء الدولة
الوطنية الهشة.. ما بعد الاستقلال، وانكشافها الداخلي، وعدم استقرارها، وتفجر حروبها الأهلية. من ثم
المدخل المناسب لإعادة بناء الموحدات الوطنية، يتمثل في ضرورة الخيار الديمقراطي، والحوار المذهبي
المتعدد، وفي الوقت نفسه نزع التسييس المذهبي عن السياسات الدينية، والخارجية.. في الدول العربية
ومجتمعاتها الانقسامية.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة