Times of Egypt

صور من رحلة لا تُنسى

M.Adam
جميل مطر 

جميل مطر


كثيرة في حياتي الرحلات التي لا تُنسى، وإن حدث ونسيت تفاصيل بعضها.. تدافعت الصور تملأ ما خلى بالنسيان. أذكر من هذه الرحلات واحدة إلى جنوب السودان. كنت في السادسة عشرة من عمري.. عندما قرر الرفقاء الأكبر سناً أن تكون رحلتنا – كفريق جوالة في كلية التجارة – إلى السودان.. قبل أن يحصل على استقلاله. أذكر أن الرحلة – ومدتها عشرون يوماً – كانت ستكلف أهلي حوالي ثلاث جنيهات قيمة الاشتراك، وتكلف الجامعة مبلغاً مماثلاً.


بدأت الرحلة من محطة قطار الصعيد.. جنوب مدينة الجيزة، لتنتهي المرحلة الأولى في أسوان. تبدأ بعدها رحلة قصيرة بالأوتوبيسات.. نعبر بواسطتها المسافة حتى شلال، لا أذكر رقمه أو موقعه، وعنده يستقبلنا النهر ليومين.. على سطح باخرة تنقل المواشي والبشر والبضائع، وترسو عند مدينة وادي حلفا في قلب إقليم النوبة. هناك انتقلنا إلى البر، لنستقل القطار إلى الخرطوم – في رحلة مرت بنا على مدن كبيرة وصغيرة – جميع أسمائها سبق أن حفرتها في ذاكرتنا كتب التاريخ والجغرافيا.. المقررة علينا كتلاميذ في السنة الرابعة من الثانوي؛ تأهيلاً للحصول على شهادة الثقافة. بتنا في الخرطوم ليلتين.. في فصول مدرسة ثانوية. زرنا خلال اليومين مقر الحزب الاتحادي، واستمعنا لشرح مطوَّل من رئيسه السيد الأزهري.. لعرضه إقامة الوحدة السياسية بين السودان ومصر.


استأنفنا الرحلة بالقطار.. في اتجاه مدينة الأُبيِّض – عاصمة محافظة كردفان – في قلب جنوب السودان،حيث استضافتنا إحدى مدارس المحافظة الليلة الأولى.. لنتوجه عند الفجر بسيارة نقل – يملكها أحد كبار تجار المواشي في المدينة – إلى موقع احتفال.. يقيمه سنوياً بعض قبائل جنوب السودان لمناسبة «طقسية»، لعلها – حسب نص الدعوة – المناسبة الأهم عند شعوب هذه المنطقة. وبالفعل، كانت الأهم لهم، وصارت الأهم لنا.. كضيوف؛ لغرابتها، ولحسن استقبال الأهالي لنا، وللدروس المستفادة من ثراء الثقافة الشعبية الموروثة، وتجارب كبار السن.. الذين هم – بحق – «خزنة» الحكمة والرأي السديد.


كنا عند الساحة الكبيرة.. في موعد هو بعد الفجر بكثير، وقبل الشروق بقليل، لنجد المئات من الشباب.. وقد اصطفوا، الصبيان في ناحية من الساحة، والفتيات في ناحية مقابلة. الجميع في سن المراهقة؛ ممن تجاوزوا وتجاوزن حده الأدنى، ولم يصلوا ويصلن.. إلى الحد الأقصى. أما العيد أو المناسبة فهي الاحتفال السنوي بسن البلوغ، أي الانتقال بشهادة الأهل والتقاليد – وفي وجود الشرعية القبلية – من مرحلة المراهقة.. بمسؤولياتها، البسيطة إلى مرحلة الشباب.. بمسؤولياتها الكبيرة.
قال لنا أكبر الكبار.. بين المضيفين: إن الحفل يبدأ على الفور استباقاً لشروق الشمس. وبالفعل نادوا على الصبيان.. واحداً بعد الآخر.. حسب أسبقية لم نتعرَّف عليها. يخرج المراهق من صفوف المراهقين، وفي يده العصا الغليظة.. التي يحملها كل مراهق رشحته قبيلته ليكتسب شرف الاعتراف بالبلوغ، يمشي مرفوع الرأس، مبرز العضلات، ثابت الخطوات.. نحو موقع اصطفاف المراهقات. وجميعهن بأجساد تلمع جلوده،ا وتنبعث منها رائحة زكية. ينتهي المراهق من دورة أولى استطلاعية توقف فيها أمام كل فتاة.. لبعض الوقت،ثم يتركها إلى غيرها وهكذا. يُنهي دورته، ليعود لدورة ثانية، لا يتوقف فيها إلا مرة واحدة.. وهي المرة التى يقف فيها أمام فتاة بعينها. مسموح له بأن يطيل وقفته هذه، وفي نهايتها يهز برأسه.. علامة للحكام من كبار السن، أنه اختار رفيقة العمر.


بعد الاختيار، وبشهادة الحكام، تخرج الفتاة محل الاختيار من الصف، وتختفي بين أفراد عائلتها.. المبتهجة بحسن حظها، ويخرج المراهق من الساحة، ويختفي في غياهب التلال المحيطة، وحقول السافانا.. بعشبها الفاره الطول. تقضي الأعراف بأن يقضي المراهق يومه مع عصاه يبحث عن ثور معروف – بين الثيران والأبقار – بقوته وسرعة هياجه. ما أن يجده حتى يبدأ على الفور في مطاردته.. ضارباً إياه بعصاه الغليظة.
تستمر المطاردة طول اليوم، وأكثر الليل.. إذا احتاج الأمر، إلا إذا استطاع المراهق – في وقت أقل – ترويض الثور.. الهائل حجماً، والثائر غضباً وألماً، والمنهك لطول الجري والمناورة. قيل لنا: إن دليل نجاح الترويض، هو أن ينساق الثور لقيادة «الشاب»..راضياً أو مستسلماً، حتى يصلا معاً إلى موقع الحكام كبار السن.. الموكل إليهم إصدار الحكم باستعداد «الشاب»..البالغ والقادر، لعقد قرانه على الشابة البالغة والجميلة، التي وقع اختياره عليها.
يبقى تحفُّظ بسيط، فلا يصدر قرار المحكمين.. إلا إذا تحقق «شرط أخير».
لم ننتظر كضيوف.. حتى الفجر التالي، لنسمع نبأ تحقق هذا الشرط الأخير.. الضروري لإكمال طقوس الزواج. تردد المضيف الأكبر سناً في إشباع فضولنا.. في شأن هذا الشرط المتبقي، مصراً على أن نشارك أولاً – مع القبائل – الاحتفال بأداء بعض آخر من مراسم المناسبة، وأهمها – في نظرهم – تناول العشاء، وهو عبارة عن كميات هائلة من اللحم المشوي، وعجينة الذرة، وشراب «الكركديه». انتهت المأدبة – التي شارك فيها كل المسنين الحاضرين، وأهالي البالغين – وغاب عنها كل المراهقين.. الذين اشتركوا في عملية تطويع الثيران القوية، ولم يتحقق بعد الشرط الأخير الحيوي والضروري.
تأخر التحقق من توفر هذا الشرط – بالنسبة لبعض البالغين المشاركين – فاضطررنا للمغادرة.. على أن يأتي في الغد إلى حيث كنا نقيم – في الأبيض عاصمة الإقليم – من يُرضي فضولنا، ويبلغنا أولاً: بفحوى وحقيقة هذا الشرط، وثانياً: باسم الفائز الأول، والقبيلة المنتمي لها.


جاءنا – عند الظهيرة – من ينبئنا بأن رسولاً من مضيفي حفل الأمس وصل، وأننا مدعوون جميعاً.. للاستماع إلى الرسالة التي يحملها.
تحدَّث حديثاً طويلاً عن التراث القبلي – في قرى ومضارب جنوب السودان -لم يتوقف.. إلا عندما أبلغه قائدنا باقتراب موعد عودتنا بالقطار إلى الخرطوم.
طلب الرسول كوباً رابعاً من الشاي، وأعاد ترتيب عباءته البيضاء الفضفاضة، واستبدل بمكان «قعدته»..مكاناً آخر أعلى درجة، وقال: «لا تكتمل مراسم الزواج عندنا للشاب البالغ، إلا إذا أتى إلينا بالثور المنهزم.. يمشي وراءه طائعاً وذليلاً، وقد حدث. وأتت إلينا شهادة – موثقة من سيدة كبيرة المقام في القبيلة – زارت العروس البالغة.. في كوخ خُصص لعرسها. تشهد الشهادة.. بأن العريس البالغ، والفائز على الثور الهائج والغاضب.. أبلى بلاء حسنا في كوخ ليلة عرسه، بالرغم من المطاردة العنيفة التي سبقت أن جرت بينه وبين الثور. تشهد الشهادة أيضاً بأن العروس البالغة، أعربت عن سعادتها ورضاها بأداء عريسها».
وفي النهاية، أعلن الرسول – وبصوت خافت – أن «حوالي نصف المراهقين.. المشاركين في هذه المناسبة المقدسة، وفازوا على الثيران، كان أداؤهم في أكواخ عرسهم سيئاً. بعضهم ناموا من التعب، وأكثرهم اعتذروا عن حالتهم المزرية.. بعد يوم عصيب، بليلة أشد قسوة».


أضاف الرسول المُسن: «هؤلاء لم يحصلوا على شهادة البلوغ، وصار بقاؤهم – ضمن قبيلتهم – غير مرغوب فيه».
استأذن الرجل لينصرف.. عائداً إلى ساحة الاحتفال، ولنعود نحن – محمولين في سيارة تاجر المواشي – إلى الخرطوم، ومنها بالقطار إلى وادي حلفا، فالباخرة، ثم عربة أخرى إلى أسوان، ومن هناك بالقطار إلى القاهرة.
نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة