Times of Egypt

رؤيا و رأي 

M.Adam
عمر إسماعيل
image

عمر إسماعيل

فوضى القرار وأزمة المصير 

إذا أردنا أن نفهم ما يجري في أوروبا اليوم، فعلينا ألا نحبس أنفسنا.. في انتظار ما يسفر عنه اجتماع اجتماع القادة الأوروبيين أمس في لندن، بل يجب أن نعود إلى ما هو أبعد من ذلك – وحتى أبعد من الاجتماع الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس.. يوم 17 فبراير الماضي – فما يحدث الآن.. ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة تراكمات سياسية تاريخية، جعلت أوروبا تبدو كسفينة تتقاذفها أمواج بحر مضطرب.. أشرعتها ممزقة، وربابنتها مختلفون على وجهتها، وسط رياح متضاربة الاتجاهات؛ بعضها يأتي من الداخل، وبعضها الآخر.. يعصف بها من الخارج. 

كان اجتماع باريس – والآن اجتماع لندن – كاشفين لحقيقة لا يمكن إنكارها.. أوروبا ليست على قلب رجل واحد؛ فالانقسامات ليست – فقط – في الرؤى السياسية، ولكنها أيضًا في إدراك المصير ذاته؛ هل تظل أوروبا في فلك الهيمنة الأمريكية.. كما هو الحال منذ الحرب العالمية الثانية؟ أم أنها تسعى إلى بناء استقلالها الاستراتيجي؛ حتى لو كان ذلك يعني إعادة رسم خرائط التحالفات؟ 

مأزق القرار.. بين التاريخ والجغرافيا 

فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكن لأوروبا سياسة دفاعية مستقلة. كانت دائمًا تحت المظلة الأمريكية، ابتداءا من خطة مارشال وإعادة الإعمار.. وصولًا إلى حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، الذي كان – ولا يزال – ذراعًا عسكريًا، تستند إليه القارة العجوز.. في مواجهة خصومها. لكن هذه المظلة بدأت تتآكل؛ ليس فقط بسبب تغير الأولويات الأمريكية، ولكن – أيضًا – بسبب هشاشة القرار الأوروبي نفسه. 

… فرنسا – التي طالما أرادت أن تكون قائدة أوروبا – تحاول اليوم تقديم ضمانات أمنية أكثر وضوحًا.. لأوكرانيا، ولكنها – في الوقت ذاته – تدرك أن قوتها وحدها.. لا تكفي لحمل هذا العبء. وبريطانيا – التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، ولكنها لم تخرج من معادلات القوة – تتعامل مع الأمر.. بحسابات مختلفة؛ قد تقودها إلى تحركات منفردة، تتجاوز الإجماع الأوروبي. أما ألمانيا – وهي القلب الاقتصادي للقارة – فلا تزال مترددة.. بين التزاماتها تجاه الحلفاء، ومخاوفها من التورط في مغامرات عسكرية؛ قد تجرها إلى ما لا تحمد عقباه. 

ترامب.. الرابح الأكبر من الفوضى الأوروبية 

وعلى الضفة الأخرى.. من المحيط الأطلسي، يجلس دونالد ترامب، يتابع المشهد، وربما يبتسم. يعرف الرجل أن ما يجري في أوروبا.. يصب في مصلحته. فقد قالها مرارًا وتكرارًا: الولايات المتحدة دفعت أكثر مما ينبغي لحماية أوروبا، وحان الوقت لكي تتحمل أوروبا مسؤوليتها الدفاعية.. بنفسها. هذا ماقاله في فترته الرئاسية الأولي، والآن.. أما وقد عاد إلى البيت الأبيض مجددا، فهو يسعى – بلا شك – إلى تطبيق هذه الرؤية، وقد يرى في الخلافات الأوروبية.. سببًا إضافيًا للضغط على حلفائه، بل – وربما – إعادة النظر في التزامات واشنطن العسكرية تجاههم. 

والحقيقة أن أوروبا بدأت بالفعل.. تستشعر هذا التغير. الولايات المتحدة لم تعد ترى أوروبا أولوية استراتيجية، كما كانت في عقود الحرب الباردة. هناك الآن ملفات أخرى أكثر إلحاحًا.. التنافس مع الصين، والمواجهة في المحيطين الهندي والهادئ، والتحديات الاقتصادية الداخلية. 

وخرائط التحالفات الجديدة 

وفي خضم هذه التحولات، تظهر تباينات داخل البيت الأوروبي نفسه. إيطاليا – بقيادة جورجيا ميلوني – تبدو أقرب إلى نهج ترامب؛ ليس فقط بسبب التوجهات المحافظة المشتركة، ولكن أيضًا بسبب إدراك براجماتي للواقع الجديد. أما ألمانيا – التي تدخل مرحلة سياسية جديدة بعد رحيل المستشار السابق شولتز، وقدوم خلفه الجديد فريدريتش ميرتس – فقد تميل إلى سياسة أكثر تحفظًا.. أقرب إلى الواقعية الأمريكية. وربما تجد نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير.. في مسارها التقليدي. 

إن أخطر ما يواجه أوروبا اليوم.. ليس فقط التهديدات القادمة من الشرق، بل هشاشة الموقف الداخلي، وانعدام رؤية استراتيجية موحدة. وحتى لو توصل القادة الأوروبيون في لندن إلى اتفاق لدعم أوكرانيا، فإنه سيبقى هشًا.. معرضًا للاهتزاز عند أول اختبار جدي. 

وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا في الهواء: هل تستطيع أوروبا أن تخرج من هذه اللحظة التاريخية.. بموقف موحد، أم أنها ستجد نفسها مرة أخرى.. رهينة لعبة الأمم؛ تتقاذفها إرادات الآخرين، دون أن تملك القدرة على تحديد مصيرها؟! 

فهل تتعلم أوروبا من دروس التاريخ؟ 

* نقابي وقيادي في حزب العمال البريطاني. 

شارك هذه المقالة