Times of Egypt

الجريمة الضاحكة 

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد 

عندما كنت أفكر في عنوان لمقال اليوم، خطر ببالي اسم فيلم «الجريمة الضاحكة» – الذي كانت تدور قصته.. حول جريمة الأخذ بالثأر، لكن في إطار كوميدي – هذا الفيلم قام ببطولته أحمد مظهر وسعاد حسني في الستينيات. وخطر اسمه ببالي لأنني عشت تفاصيل جريمة أخرى، بدا وكأن كل أطرافها.. اتفقوا على أن يمثلوها بطريقة كوميدية ساخرة: الضحية، والمتهم، والبوليس. والشيء بالشيء.. يُذكَر. 
*** 
قبل نحو شهرين، سافرتُ مع عائلتي إلى إحدى الدول الأوروبية الرائعة.. لقضاء أسبوع نهاية العام فيها. توصف هذه الدولة.. بأنها متحفية؛ لعراقة حضارتها، ورقيِّ فنونها، وفخامة معمارها؛ فإن أنت مشيت في شوارعها، شعرتَ أنك تتجوَّل بين أجنحة متحف مفتوح. على الجانب الآخر يشيع عن هذه الدولة.. انتشار ظاهرة السرقة، وهناك حواديت كثيرة.. تعرَّض أصحابها لحوادث من هذا النوع.. نكَّدت عليهم، وكانت سبباً في تكدير إقامتهم.  

مثلاً، حكى لي أكاديمي وسياسي مرموق، كيف أنه تعرَّض للسرقة.. في نفس يوم وصوله إلى عاصمة الدولة إياها، فبينما كان يقف في طابور طويل.. انتظاراً لتاكسي، يأخذه من المطار إلى الفندق، فوجئ بأن حقيبة الأوراق والنقود ليست بجانبه، فما كان منه إلا أن قضى الفترة كلها.. في استخراج وثيقة سفر إلى القاهرة، فلا حضر الندوة التي ذهب للمشاركة فيها، ولا نفّذ جدول زيارته لمعالم المدينة.  

ولذلك، فعندما رأينا السفر إلى هذه الدولة، أعددتُ خطة مُحكمَة، وأطلعتُ عليها أفراد أسرتي. قرّرت ألا أترك في حقيبة يدي إلا عشرين يورو؛ حتى إذا تعرَّضتُ للسرقة، وجد اللص مبلغاً من المال.. صحيح أنه قليل جداً بالنسبة له، لكنه أفضل من لا شيء.. وقد يأخذه ويتركني.  

اعترض زوج ابنتي قائلاً: يعني يا طنط حضرتك عاوزة تتسرقي؟  

طبعاً لا – أجبته بشكلٍ قاطع – لكن في الوقت نفسه، هناك احتمال كبير لأن أتعرَّض للسرقة، وفي حال لم يجد اللص ما يسرقه.. فقد يلجأ لاستخدام العنف، وأنا أطير بنفخة.  

لم يقتنع، ومع ذلك.. مضيتُ في تنفيذ خطتي، التي أطلقتُ عليها خطة 4-2-4. وهكذا توكّلت على الله، وأفرغتُ كل محتويات الحقيبة – من نظّارة القراءة والباسبور ودواء الصداع النصفي – وتركتُ بها المناديل الورقية، والمبلغ المقرر، وبعض بونبون النعناع.. فقط لا غير. فلقد وضعتُ في اعتباري أن اللص قد يلجأ إلى انتزاع الحقيبة من ذراعي، ولا يضع يده داخلها.. بالضرورة، وحينها أكون أيضاً في وضع آمن، ولا أفقد شيئاً أحتاجه خلال إقامتي. 
*** 
وقفنا في انتظار المترو.. ليأخذنا إلى قلب العاصمة: زوجي، وابنتي وزوجها، وحفيدتي. طال الانتظار لمدة عشر دقائق، فجلستُ على دكة رخامية – إلى جانب امرأتين مهندمتين.. في منتصف العقد الرابع – لاحظتُ أنهما تتابعانني بشيء من الاهتمام، ففسّرت ذلك أنه بدافع الفضول.  

تدلّت حقيبة جلد سوداء ضخمة من ذراعي، لم أحفل بإقفالها بشكلٍ محكم.. من باب أنني أعرف البير وغطاه. جاء المترو، فصعدت أسرتي بسرعة، وصعدت من خلفنا المرأتان.. اللتان كانتا بجواري على رصيف المحطة.  

قبل أن يغلق المترو بابه، جاء شرطيان مهرولَين.. وهما يصيحان بكلامٍ غير مفهوم، بدا أنهما يوجهانه لي. تبادلتُ وأسرتي النظرات، لا نفهم ماذا يجري بالضبط، ولمّا أدرك الشرطيان أنني لم أفهم ما يقولان قالا بعلوّ صوتهما باللغة الإنجليزية pick pockets -pick pockets وأشارا إلى المرأتين الواقفتين إلى جواري. وفي لحظة.. كل شيء انكشف وبان؛ فالمرأتان وجدتا في حقيبتي نصف المفتوحة.. صيداً سهلاً، فقررتا تعقّبي إلى داخل عربة المترو، والباقي مفهوم طبعاً.  

قبل أن أقوم بأي تصرّف، قفزَت المرأتان من العربة، واقتربتا من الشرطيين وفردَت كل منهما أصابع يدها اليمنى في وجهَي الرجلين، في إشارة نطلق عليها في لهجتنا المصرية العامية: كُبّة! 
*** 
بعد أن استوعبت الموقف، وأدركت حقيقته.. استغرقت في نوبة من الضحك، لا شك أنها أثارت فضول الركاب.. الذين فهموا أن الموقف هو موقف سرقة، وبالتالي فإن المشاعر التي تناسبه.. تتراوح ما بين الدهشة، والقلق، أو حتى الذعر والغضب، أما الضحك فلا. لكن مبررات ضحكي.. كانت تبدو لي قوية؛ أولاً: لأنني نصبتُ فخاً محكماً للصوص، ونجحت بالفعل.. في اجتذاب امرأتين محترفتين، وأسلت لعابهما.. انتظاراً لصيد، كانتا تظّنان أنه صيد ثمين، والواحد منّا يُسعده أن يتصرّف بذكاء.  

وثانياً: لأن الشرطيين المخلصَين.. كانا يعلمان أن المرأتين تحترفان السرقة، ربما لأن لهما سجلهما الإجرامي المعروف، ومع ذلك اكتفى الشرطيان بتحذيري.. ولم يلقيا القبض عليهما، ولو أرادا وضع حد لسرقات المرأتين، لانتظرا بضع دقائق – لا أكثر – وقاما بضبطهما متلبستين، لكنهما أعطيا المرأتين فرصة.. للهرب من مسرح الجريمة.  

وثالثاً: لأن المرأتين قامتا بعمل «كُبّة» للشرطيين – وهذا هو أطرف ما في الموضوع – فلم يكن هناك خوف من الشرطة، ولا إحراج من الموقف برمّته.. ولا يحزنون، بل إظهار التبرُّم من ضياع الفريسة.. بهذه الحركة التلقائية، التي تكشف عن التقارب بين عادات شعوب البحر المتوسط؛ فنحن أيضاً نعمل «كبّة».. للتعبير عن أنواع مختلفة من المشاعر السلبية. 
*** 
نزلنا في محطة وسط المدينة، وقبل أن ننطلق إلى وجهتنا، استوقفني زوج ابنتي قائلاً: والنبي يا طنط كفاية خطة 4-2-4 لحد كده، المرّة دي ربنا ستر، والله أعلم المرّة الجاية يحصل إيه. كان وجه زوج ابنتي مسكوناً بقلق حقيقي، وهكذا هم المهندسون والأطباء، لأنهم يمنطقون كل الأشياء والتصرفات، وما فعلته كان – في تقديره – يخرج عن حدود المنطق.  

قررتُ أن أذهب خطوة.. أبعد – في الدفاع عن خطتي – فقلت: يا أحمد، إنني أفديكم بنفسي؛ فاللص لن يسرق نفس العائلة مرتين. ومع ذلك، لم أكن متأكّدة من أنه أخذ كلامي على محمل الجدّ، لكنني أظن أنني نجحتُ في إضفاء جو من التشويق على سفرتنا.. حتى آخر يوم فيها.  

وبالتدريج، بدأ زوج ابنتي نفسه.. يتعامل مع موقف المحطة بقلقٍ أقل، وبشكلٍ أبسط، ويكتفي كل مرة كنّا نذهب فيها لركوب المترو، بأن ينبهني بلطف: اقفلي الشنطة يا طنط! 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة