Times of Egypt

تمهيد لرمضان

M.Adam
أحمد الجمال

أحمد الجمال..


تمهيداً لما قد أكتبه في أسابيع رمضان، أبدأ بأنني.. كم تقمصتني التقاليد والأعراف الشعبية، التي سادت في حقب تاريخ مصر القديم، الذي اصطُلح على تسميته «الفرعوني»؛ وهي تسمية دخيلة وكريهة لأسباب عديدة، ليس الآن مجال الحديث فيها.. أراني وقد ارتديت الجلابية، واعتمرت الطاقية، وانتعلت البلغة، وإذا تيسَّر الحال.. وضعت شالاً على رأسي، وكوفية حول عنقي، وحاجة ثقيلة على عاتقي، إذا كان الطقس بارداً مثل الآن، ولم يكن شرطاً أن تكون عباءة، وإنما أي هدمة ثقيلة حتى لو كانت قديمة.
وقد تركت التعليم الجامعي، ودُرت مع الدراويش والمجاذيب والواصلين؛ ومنهم فلاحون وصنايعية وضباط جيش وشرطة، وأساتذة جامعات، وأصحاب أعمال.. وفيهم نساء ورجال!
وأراني وقد ارتحت للبقاء وقتاً طويلاً في الجبانات «المقابر».. وعلى أرصفة مساجد وأضرحة آل البيت والأقطاب.. البدوي والدسوقي والشاذلي وأبي العباس وسيدي شبل والقناوي، وكنائس العدرا ومار جرجس وأديرة بيشوي والسريان والشايب!
لقد كنت – ولزمن غير قصير – كائناً مصرياً قديماً ووسيطاً فيما أعيش.. مكاناً وزماناً في مصر المعاصرة!
وبمناسبة «الجبانة» أي «المقابر»، فقد كان قدامانا- أي أجداد أجداد أجدادنا البعيدين في عمق الزمن- ينصبون أنوبيس سيداً للجبانة، وهو رسول أوزيريس وحامي المومياوات.. ويُنسب إليه في الأسطورة الأوزيرية- أي مصرع أوزير وتمزيق جثمانة على يد «ست» أخيه.. إله الشر، وجمعه مرة أخرى بيد إيزيس- أنه ساهم في البحث عن جثمان أوزيريس، وجمع أشلائه الممزقة.. وفي كتاب الموتى نراه حارساً وضابطاً للميزان، وكان يصوَّرُ على هيئة إنسان برأس حيوان هو ابن آوى، الذي يقال إنه الثعلب.
ولا أدري لماذا بقي تراث الجبانة سارياً.. في حياة الذين نذروا أنفسهم للسعي وراء الحقيقة الإيمانية، حيث نجد معظم أقطاب التصوف يحرصون، أو يدفعون إلى الاعتزال فترة من حياتهم داخل الجبانات، في عزلة تامة – يغلفها صمت الأموات، أو بمعنى أصح جلال الموت – وحتى في التراث الرهباني، نجد الفلوات والكهوف والطواحين القديمة المهجورة.. موئلاً لكبار الرهبان. وما يجمعها مع الجبانات، هو العزلة والصمت والجلال، والتصالح بين الإنسان الحي والجماد «التراب والصخر والطوب»، وأيضاً بينه وبين الكائنات الموجودة في هذه المعازل البعيدة عن العمران.
وهنا أتذكر قصة خمارويه بن أحمد بن طولون – الذي حكم مصر خلفاً لأبيه – وكان مغرماً بصيد الأسود واقتنائها في أقفاص. وذات مرة، شكا المصريون – من عسفه وجبروته وبطشه.. بزيادة الضرائب – إلى القطب الولي تقي الدين بن دقيق العيد، الذي ذهب إلى خمارويه ورفع شكاوى الناس، وطالبه وبقوة برفع المظالم، فما كان من الوالي إلا أن ضج من جرأته، وزاده الوشاة والانتهازيون حنقاً، فقرر أن يرمي بالشيخ الصوفي الولي إلى الأسود، وأمر بتجويعها عدة أيام، ثم ألقى بالشيخ في حفرة واسعة تحيطها أماكن للمشاهدة.. ويفتح عليها باب قفص الأسود.. ودخل أسد هصور ضخم زأر ودار من حول ابن دقيق العيد، والكل يحبس أنفاسه، انتظاراً لأن يلتهم الأسد الجائع الشيخ الساكن، وطال الوقت قليلاً.. ليشاهدوا الأسد وهو يربض أمام الرجل، ويلعق يده.. ولا شيء غير ذلك. وانقسموا بين قائل إن الشيخ بدا جثة ميتة، والأسود لا تحبذ أكل الجيفة.. ومن قائل إن الشيخ فقد عقله وإرادته، وأن الأسد ربما كان شبعان.. وأخرجوا الشيخ من الحفرة وسألوه: «فيمَ كنت تفكر وأمامك الأسد؟».. فردَّ: «كنت أفكر في لعابه عندما لعق يدي أطاهر هو.. أم نجس»!
ويقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه «وحي القلم»: «إن الحقيقة هي.. أنه كما تخلى الشيخ عن بشريته، فلم يفكر في حياته وموته وولده وأسرته وماله، تخلى الأسد عن وحشيته. ولو كان الشيخ قد فكر في ولد أو مال أو موت، لفاحت رائحة لحمه من فم الأسد. وبدلاً من أن يكون الشيخ بين يدي الأسد، صار الاثنان بين يدي الله»!
وهذه القصة تُذكرني بقصة مرقس الرسول، الذي رمزه «أسدان قويان». إذ يقال «إن والديه كانا يتمشيان في أحراش فلسطين.. ومعهما الطفل مرقس، وإذا بأسدين هصورين يخرجان من الأحراش متجهين لهم، وذُعر الوالدان وأصابهما الرعب، خاصة على الابن. وإذا بالابن الطفل يتقدم نحو الأسدين.. اللذين خضعا أمامه كالحملين الوديعين، ولم تتحكم فيهما وحشيتهما»!
لقد عشت في تجوالي الصوفي.. حالات للتحول والتخلي، ومن ثم التحلي. وربما يكون للحديث صلة في أسابيع رمضان.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة