Times of Egypt

غروب الإمبراطورية الأمريكية!

M.Adam
عبدالله السناوي 

عبد الله السناوي..
مستقبل الولايات المتحدة شأن دولي.. بقدر الأدوار التي تلعبها في تقرير مصائر العالم. هذه حقيقة يصعب إنكارها.
لكنها ليست اللاعب الوحيد، ولا كلمة رئيسها لا تِرد. هذه حقيقة أخرى.
بعد نهاية الحرب الباردة، جرت مراجعات واسعة حول طبيعة وأسس النظام الدولي، ودواعي القلق من أن تنفرد دولة واحدة بمقاديره. إلى أي حد يحتمل العالم، والولايات المتحدة نفسها، زوابع «ترامب» السياسية مع حلفائه قبل خصومه؟!
بأزمتي غزة وأوكرانيا، ناقضت تصريحاته وتصرفاته قواعد القانون الدولي، في الأولى بتبني «التطهير العرقي».. واصطدمت في الثانية.. بأسس وجذور التحالف الغربي، الذي تقوده بلا منازع منذ الحرب العالمية الثانية.
استدعت دعوته العنصرية إلى إخلاء غزة من أهلها.. ردة فعل عربية، ترفض التهجير القسري. كما استدعت إدارته شبه العشوائية للأزمة الأوكرانية.. ردة فعل أوروبية جماعية، تدعو إلى منظور جديد لأمن القارة بعيداً عن الولايات المتحدة.
قبل ثلاث سنوات، نشبت الحرب الأوكرانية.. بذريعة حماية الأمن الروسي، من أن يتمركز حلف «الناتو» بجوارها. بالنسبة للرئيس الروسي «فلاديمير بوتين».. كان التدخل العسكري محتماً، لكنه استُخدم لإحكام الحصار على موسكو.
استندت ذريعته على خرق الولايات المتحدة لوعد قطعته على نفسها عام (1990)، عدم نشر صواريخ «الناتو» على الحدود الروسية، مقابل موافقة موسكو على توحيد الألمانيتين.
إثر التدخل الروسي، تعرضت موسكو لحرب استنزاف طويلة، وفرضت عليها عقوبات قاسية أنهكت اقتصادها، وتراجعت أدوارها الدولية إلى حدود غير مسبوقة، لكنها صمدت في ميادين القتال بمواجهة حلف «الناتو»، وضمت أراضي جديدة.
لم تعد اعتبارات الأمن الروسي وحدها.. موضوع الحرب، أصبح التنازع على الأرض عنواناً رئيسياً؛ لكل طرف أسبابه وحيثياته في طلب ضم مناطق معينة إليه.
توحدت أوروبا وراء إدارة الرئيس الأمريكي السابق «جو بايدن».. باسم الدفاع عن وحدة الأراضي الأوكرانية، ودرء «الخطر الروسي» على سلامة دولها.
إثر صعود «ترامب»، بدأت مستجدات السياسات تهدد الأمن الأوروبي نفسه، الذي بات يفتقد لأول مرة – منذ ثمانين سنة – للغطاء العسكري الأمريكي.
ارتفعت في مراكز القرار الأوروبي.. دعوات لبناء جيش أوروبي للدفاع عن أمن القارة، دون حاجة إلى الولايات المتحدة. جرى – بالوقت نفسه – نوع من التأهب لإعادة صياغة حلف «الناتو»، وتوفير احتياجاته ومتطلباته.. إذا ما أخلّت الولايات المتحدة بالتزاماتها المالية والتسليحية.
طُرحت فكرة نشر (30) ألف جندي أوروبي في أوكرانيا. كان ذلك تحدياً لـ «ترامب» وإزعاجاً لـ «بوتين».
إذا تفاقمت الأزمة الأوروبية-الأمريكية، قد تجد واشنطن نفسها منعزلة ووحيدة.. خلف المحيط، وينهار – بالوقت نفسه – ما تبقى من عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عندما انهار الاتحاد السوفييتي، وتفككت ما كان يطلق عليها المنظومة الاشتراكية، وحُل حلف «وارسو».. بقوة الأمر الواقع، انتهى النصف الأول من معادلات ما بعد الحرب. ربما نكون الآن أمام احتمال انهيار النصف الثاني، الذي قادته الولايات المتحدة بمفردها. هذا أخطر تهديد لجذور ومرتكزات القوة الإمبراطورية الأمريكية.
كانت القوة العسكرية.. ركيزة أولى، تأكدت ضروراتها أمام العالم الغربي في الحرب العالمية الثانية. وكانت الوفرة المالية.. ركيزة ثانية، مكَّنتها من المساعدة في إعادة إعمار أوروبا – خاصة ألمانيا – كما ساعدتها في تمويل المنظمات الدولية. لم يكن ذلك تبرعاً مجانياً.. بقدر ما كان تسويغاً للعب أدوار قيادية، تطلبها وتقدر على تكاليفها.. بنفس الوقت. وكانت قوة الصورة ركيزة ثالثة.. في تثبيت أركان الإمبراطورية.
بدت هوليوود، ومساحة الحريات العامة الصحفية الإعلامية الواسعة.. عاملين جوهريين في بناء ما أطلق عليه – لسنوات طويلة – «الحلم الأمريكي». أخطر ما تنطوي عليه زوابع «ترامب».. تبديد الحلم القديم نهائياً، وإحالته إلى كابوس مقيم.
قبل صعود «ترامب» إلى البيت الأبيض مجدداً، تعهد بإنهاء الأزمة مع روسيا، دون أن تكون لديه خطة واضحة متماسكة.. للخروج من المستنقع الأوكراني.
لم يكن ذلك التوجه بذاته مقلقاً للأوروبيين. ما يستدعي القلق، انفراده بالتصرف بأدق قضايا الأمن الأوروبي.. دون مراجعتهم، أو استشارتهم. ولا وضع أوكرانيا نفسها في صورة تفكيره.
بتعبير الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»: «إننا نطلب وقف إطلاق نار، لكن ليس على حساب وحدة الأراضي الأوكرانية؛ ذلك سوف يكون استسلاماً».
يدرك «بوتين»، أن الطريقة التي يدير بها «ترامب» المحادثات.. بعيداً عن الأوروبيين، لا تجعل من الممكن إحراز أي سلام مستقر.
شجع الأوروبيون الرئيس الأوكراني «فولوديمير زيلينسكي».. على تحدي «ترامب»، الذي يمعن في تعمد إهانته.. بوصفه «الديكتاتور» الذي يفتقر إلى الشعبية والشرعية.
في البداية، أبدى «زيلينسكي» نوعاً من الاستعداد لقبول ما يُملى عليه، ثم بدأ يعبر عن درجة من التململ.. قبل أن يعلو صوته معارضاً: «لن نذعن».. «إننا نرفض منح أمريكا نصف معادننا النادرة».. تعويضاً عن خسائرها المالية في الحرب؛ على ما يطالب «ترامب».
مشكلة «ترامب»، أنه يتصرف كما لو أنه ملك على العالم كله، لا أوروبا فقط. يصدق تصوراته عن نفسه، ويروجها في الإعلام، مستهيناً بالحلفاء الإقليميين والدوليين.. حتى وجد الحليف البريطاني، لأول مرة منذ استقلال الولايات المتحدة، على الجانب الآخر من واشنطن.. في مسألة الأمن الأوروبي.
إنه التحلل في بنية الإمبراطورية الأمريكية.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة