عمار علي حسن
حين اتصلت بالمهندس إبراهيم المعلم – صاحب «دار الشروق» – لتهنئته إثر فوزه بجائزة الاتحاد الدولي للناشرين «IPA Champion Award».. التي تُعد أرفع الجوائز في مجال النشر على مستوى العالم، وصف لي الجائزة بأنها «نوبل» في مجال النشر، ما يعني أنها الأرفع عالمياً، كما هي حال نوبل في الآداب والاقتصاد والكيمياء والفيزياء والطب والسلام، وقد أقر كُتاب وناشرون وصف «المعلم» لجائرته، تقديراً لرفعتها وأهميتها وحاجة النشر العربي إليها في الوقت الراهن.
أثلجت هذه الجائزة صدر الناشرين وأهل الكتابة، ممن يدركون أن وجود مؤسسات متمكنة في الطباعة والنشر والتوزيع ببلادنا هو – دون شك – يساعد ما يكتبونه على الوصول إلى القارئ في كل مكان بالعالم العربي، وإلى العرب في المهجر أيضاً، ويعزز حضور مصر في الثقافة العربية والعالمية، بما يليق بقيمتها وقامتها.
وكم فرح الجميع أيضاً لفوز الناشر أحمد رشاد – من الدار المصرية اللبنانية – بمقعد فى اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي للناشرين.. بثاني أعلى الأصوات، فى انتخابات جرت مؤخراً على خمسة مقاعد، ليكون ثالث ناشر عربى الفائز بهذا المقعد منذ تأسيس الاتحاد عام 1896م.
يعطي هذان الحدثان بادرة أمل.. في تعزيز صناعة النشر في مصر؛ بوصفها من الصناعات الثقيلة، تشكل رافداً أصيلاً من الصناعات الإبداعية، التى أصبحت أهم للولايات المتحدة الأمريكية نفسها من صناعة السلاح، لأنها تُدر ربحاً أكثر، وتحقق الهدف القومي أو تخدم التصور الاستراتيجي الأمريكي دون عنت ولا عناء.
لقد انتبه غيرنا في الإقليم إلى هذا، فوجدنا دور النشر الكبرى في مصر تتلقى عروضاً من قبل بلدان عربية.. لنقل نشاطها إلى هناك، وهذا والله لو حدث لفقدت مصر واحداً من أبقى أدوارها، وأعز سماتها، وأوضح قسماتها، وأحد المسارات المهمة التي بقيت لها.. رغم هجوم عوامل تعرية على دورها هذا من كل اتجاه.
وما أسعدني أن أصحاب دور النشر الكبرى في بلادي.. رفضوا أن ينقلوا مقراتهم الأساسية إلى الخارج، وتمسكوا بالبقاء في القاهرة، رغم الصعوبات التي تواجههم، وأقلها ارتفاع أسعار الورق، بل عدم توفره أحياناً.
حالة النشر في العالم العربي عموماً، تواجه صعوبات جمة، وهذه خلاصة انتهيت إليها.. بعد قراءة عدد من التقارير السنوية التي يعدها د. خالد عزب، وتصدر عن اتحاد الناشرين العرب – فهي في الغالب الأعم صارت، لاسيما عند واردين جدد على عالم النشر – تجارة ثم تجارة ثم تجارة، وبعدها صناعة، بينما تأتي الرسالة أو مهمة ترسيخ المعرفة والوعي والذوق والجمال في الذيل، وقد لا توجد أصلاً.
لقد زحفت آليات الرأسمالية المشوهة على النشر، فصار المهم عند أغلب الدور هو حجم المبيعات لا مستوى ما يُطبع ويقدم للقراء. وبدلاً من الارتقاء بذوق القارئ ومستوى تفكيره، يحدث العكس تماماً، إذ جرى تقبل واستمراء كل ما يدر ربحاً أعلى، حتى لو كان يهبط بالوعي والذوق إلى أسفل سافلين.
وزادت هذه الظاهرة.. مع ظهور دور نشر صغيرة وعابرة، تطبع لمن يدفع وتعطيه اسمها، دون تدقيق في عمق أو صدق أو صواب أو سلامة أو ملكية ما يُقدم، وبذا صار بوسع أي شخص يمتلك مالاً أن ينشر كتباً، حتى لو كان الموضوع متهافتاً، والصياغة مهترئة، والفكرة أكل الدهر عليها وشرب.
وما يزيد الطين بلة أن أغلب دور النشر الصغرى لا تدفع لمصححين لغويين، ولا لمحررين، ولا للجان للقراءة والحكم على صلاحية العمل للنشر من عدمه، ومن ثم يُفتح الباب على مصراعيه لسيل من الكتابات التي أغرفت السوق، وتقود بالتتابع إلى الحط من شأن الكتب والكتابة والكتاب أنفسهم، حين تضيف إلى صفوفهم ما لا يمكن أن يكون منهم، لو أن هناك مصفاة تمرر الجيد من الكتابة، وتحجب الرديء.
ثم يأتي التلاعب في تزييف عدد الطبعات بما يعطي إيحاء خاطئاً لسوق القراءة، فيقبل الناس على التافه والسطحي أو غير الناضج، وأحياناً غير المفيد وفاقد القدرة على الإمتاع والإضافة، بدعوى أنه من الأكثر مبيعاً.
ليس معنى هذا أن الساحة تخلو من دور نشر صغرى جادة، يؤمن أصحابها، وبعضهم يُحسب على المثقفين، بأنهم معنيون بالارتقاء بقيم الحرية والجمال والعدل والتجدد، وأن الكتاب – ومهما نافسته وسائل أخرى – يظل الطريق الأوسع والأرسخ للمعرفة، وأن مصر لا تكف عن رفد الحياة الثقافية بأصحاب أقلام جدد، يجب استيعاب طاقاتهم الإبداعية، وتقديمهم إلى المجتمع.
والأدهى والأمر، هو قيام مطابع صغرى – في شوارع خلفية وحارات جانبية – بتقليد كتب مهمة وناجحة.. صدرت عن دور نشر كبرى، وطرحها للبيع على فرشات باعة الصحف والكتب.. بثلث الثمن أو ربعه، ولو استمرت هذا واستفحل لأثر سلباً على وضع دور النشر الحقيقية، وربما أضعف بعضها إلى حد طردها من السوق، وإجبارها على الإغلاق.
أتذكر أنني تحدثت مع أحد هؤلاء.. في شارع النبي دانيال بالإسكندرية، حين رأيت رواياتي مطروحة للبيع على فرشته بأسعار تبلغ ثلث سعرها في الدار المصرية اللبنانية والشروق وغيرهما، بالغلاف نفسه لكن بورق أقل جودة، عن خطر هذا على مستقبل صناعة النشر. وقلت له: الأفضل أن تتفقوا مع دور النشر الأصلية على إصدار طبعات شعبية. فقال لي: موافق. وحين عدت بهذا إلى الأستاذ محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين العرب – وصاحب الدار المصرية اللبنانية – قال ضاحكاً: أعيتنا الحيل معهم، وخالفوا كل الاتفاقات. وواصل: بعضهم لا يكتفي بالسوق المصرية، إنما يصدر الكتب المزيفة إلى أسواق عربية.
من ناحية أخرى، أصبح لدينا الآن جيل من القراء.. تربوا على الثقافة السماعية والمشافهة المبتسرة والجوفاء، وغير المؤصلة الراسية على أسس وجذور، والتي تطلقها وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار. وبعض المتفاعلين مع هذا النمط من الثقافة، يزحفون سريعاً إلى عالم النشر؛ سواء ككُتاب هواة أو قراء غير مدققين، بل غير مستعدين لتقبل الجيد من النصوص الأدبية والعميق من المعارف العلمية.
لكل هذا نستقبل احتفاء العالم بناشر مصري كبير مثل المهندس إبراهيم المعلم.. بتفاؤل حيال قدرة صناعة الكتاب في مصر.. على التحقق، وبلوغ آفاق عالية وواسعة، نريد لها أن تستمر وتتعزز في قابل السنوات.
نقلاً عن «المصري اليوم»