سمير مرقص
- الربط بين أحداث مصر الكبرى منذ تأسيس الدولة الحديثة في 1805
في الأسبوع الماضي، وبمناسبة حلول الذكرى الـ73 لثورة يوليو 1952، حاولنا أن نقاربها.. مقاربة متحررة من أي موقف مسبق: معها أو ضدها.
تستلزم هذه المقاربة اتباع قواعد محددة، تضمن قدراً من الموضوعية التاريخية.
من هذه القواعد – التي أشرنا لها في مقال الأسبوع الماضي – واحدة تتطلب النظر إلى تاريخ مصر.. باعتباره دراما حية تاريخية وممتدة ومتواصلة، لا باعتباره فصولا منبتة الصلة.. عن بعضها بعضاً. ما يعني ويستوجب النظر إلى الحدث «اليوليوَي».. في ضوء ما سبقه من أحداث. القريبة؛ وأقصد الحدث الكبير الذي سبقها أي ثورة 1919، وما تلاه من وقائع، وما الذي نجحت/أخفقت فيه. والبعيدة؛ أي بمراجعة حدث تأسيس الدولة الحديثة، وما أعقبه من أحداث فارقة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وذلك حتى يتسنَّى لنا فهم ما الذي تعنيه يوليو في التاريخ المصري؟ وهل كانت ضرورية؟ ومن ثم ما الذي أنجزته/فشلت في أن تحققه؟
بلغة أخرى، لا يمكن اقتطاع «يوليو».. من سياقها التاريخي من جهة، ولا من مسار تاريخ مصر الحديث من جهة أخرى. أخذاً في الاعتبار أن الأحداث الرئيسة الكبرى – التي مرت بها مصر منذ عام 1805 (العام الذي يتفق على أنه نقطة انطلاق الدولة الحديثة المصرية) – قد حملت تأسيسات جديدة.. للمرة الأولى في التاريخ، لمصر والمصريين مثل: مشاركة المصريين في ملكية الأرض، تأسيس جيش وطني، موجة التصنيع الأولى زمن محمد علي، بدء بناء هياكل إدارية وتنظيمية حديثة للدولة، التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تشكل وانطلاق الحركة الوطنية المصرية، والإبداعات القومية والمدنية، أثر الاستعمار، وحكم ورثة الأسرة العلوية… إلخ.
- التحيز والتخيل
إذن، إن لم نتبع المنهجية التي أطرحها – فيما أظن – فإن تقييمنا سوف يشوبه «التحيز» و«التخيل»؛ تحيزاً ضد يوليو.. أو معها. وتخيل ما فعلته يوليو خيراً أو شراً. (ونحيل هنا إلى مفهوم غاية في العمق والفائدة.. في تقييم التجارب الثورية والنضالات الجماهيرية، للفيلسوف اليوناني كورنيليوس كاستوريادس: المخيلة الثورية وقد أفادنا جداً في نظرتنا لثورتي 1919، ويوليو وواقع المواطنة).. ما سيؤثر بالضرورة في حكمنا على الحدث، كما في نظرتنا إلى مساره، خاصة أن القراءة المتأنية للحدث ومساره ومآلاته، تشير إلى أن يوليو قد مر بثلاث مراحل كما يلي: يوليو الثورة من 1952 إلى 1956، ويوليو الدولة من 1956 إلى 1966، وأن هناك يوليو ثالثة شهدت تشكلاً لدولة نقيض بعد رحيل ناصر. وبالطبع لا يمكن الحديث عن تفاصيل المحطات الثلاث ليوليو (ننشر التفاصيل في كتاب قيد الطبع). بيد أنه يمكن أن نطرح سؤالاً أولياً: هل كانت يوليو الثورة ضرورة؟ وللإجابة عن هذا السؤال المطروح، ووفق المنهج الذي اقترحناه، لا بد لنا أن نعود إلى المحطة الأبرز التي سبقت ثورة يوليو.. أي ثورة 1919، لفهم ما قدمته والمسار الذي سارت فيه وما آلت إليه.
- استجابة راديكالية لواقع مأزوم
على الرغم من أن حزب الوفد قد استطاع في ثورة 1919، أن يقترب من بلورة المواطنة عملياً.. بعد جهد طويل بذله المصريون على مدى سنوات طويلة سابقة، ومن ثم كانت لحظة الثورة تعبيراً عن أن المصريين – للمرة الأولى في التاريخ – قد أصبحوا طرفاً بدرجة أو أخرى.. في الشأن العام للبلاد. لذا يعتبرها «الباحث الكبير الراحل نزيه نصيف الأيوبي» هي التي «أعطت المواطنة مضموناً جماهيرياً اجتماعياً»؛ وذلك ببلورة حركة وطنية عابرة للطبقات والفئات والأجيال والجهات من جهة، ويمكن أن نضيف، أسست مجالاً عاماً لحركة المصريين.. من جهة أخرى. وعليه جاء دستور 1923 ليركز – بالأساس- على ما أطلقنا عليه المواطنة السياسية والمدنية. إلا أن السنوات من 1924 حتى 1952، قد شهدت صعوبة بالغة في تطوير ما تم إنجازه خلال ثورة 1919.
تقول الأرقام إنه خلال هذه الفترة.. تولى حكم مصر 38 وزارة، ولم يكمل مجلس تشريعي دورته البرلمانية.. سوى برلمان واحد فقط. هذا بالإضافة إلى دخول الوفد – حزب الأمة – لعبة التحالفات السياسية والمهادنة.. مع القصر والإنجليز، كذلك كثُرت الانشقاقات الحزبية، ووقوع الأحزاب جميعها – وعلى رأسها الوفد – في قبضة كبار الملاك، وهو ما وصفه صلاح عيسى في إضافة تحليلية هامة بـ «بلعب البرجوازية المصرية خارج الحلبة».
واكب تلك التراجعات.. احتقان اقتصادي اجتماعي متصاعد، بلغ ذروته في أربعينيات القرن الفائت (يمكن مراجعة كتابات طلعت حرب، ويوسف نحاس، وعبد الحميد فهمي مطر، ومريت غالي، وإبراهيم مدكور، ومصطفى الحفناوي، وراشد البراوي، وطارق البشري… إلخ) أوصلت المجتمع إلى لحظة تأزم كبرى.. اقتصادية واجتماعية. كذلك طبقية وجيلية، فصلها أنور عبد الملك؛ ففي تلك الفترة، كانت الهيمنة على المقدرات الاقتصادية في مصر.. لكبار ملاك الأرض المصريين، وللمصالح الأجنبية المسيطرة على مؤسسات المال والتجارة.. من بنوك وشركات. كما كان المجتمع الريفي ينقسم بحدة إلى 0.5% من الملاك، يمثلون أكثر من ثلث الأراضي الزراعية، وفي مواجهتهم أحد عشر مليوناً من الفلاحين المعدمين.
وقد دفع السياق الاقتصادي/الاجتماعي إلى عناية قوى التغيير الجديدة بالبعدين الاقتصادي والاجتماعي للمواطنة، على حساب البعدين السياسي المدني. وفي هذا الإطار، فرض الواقع الاهتمام ببناء قاعدة تصنيعية (وفي هذا المجال لا بد من مراجعة علي الجريتلي وحسين خلاف وغيرهما). ويشرح بدقة أنور عبد الملك كيف تم تفكيك البرجوازية القديمة.. التي أحجمت عن المساهمة بالكلية في اقتصاد المرحلة الجديدة، ما دعا – حسب الكثير من المصادر الأجنبية الحديثة في إطار دراسة مقارنة بين تأميم مصدق للنفط وتأميم ناصر للقناة والتحول المصري – إلى رأسمالية الدولة.. عبر المؤسسة الاقتصادية التي تأسست في 1957، وما تلاها من إجراءات.
وأذكِّر مجدداً أن ما جرى – شأنه شأن التحولات الكبرى في تاريخنا منذ عهد محمد علي ــ يمثل خبرات تاريخية جديدة، يتفاعل معها المصريون، ويكتشفونها للمرة الأولى. وربما يكون الجدير بالدراسة.. ليس هو الحكم القيمي على يوليو، بقدر فهم دينامياتها الداخلية.. في إطار العلاقات المعقدة مع القوى العالمية، ولماذا لم تستطع التطوير على ما أسسته ثورة 1919 من جهة، ومن جهة أخرى لماذا لم تراكم يوليو – الدولة النقيض – على ما أسسته يوليو الثورة والدولة؟ وفي ماذا تناقضت، ولماذا، وكيف؟.
نقلاً عن «المصري اليوم«