سمير مرقص
(1)
نحو قراءة جديدة للتاريخ
حلت قبل يومين الذكرى الـ73 لثورة يوليو 1952، وهي مناسبة تفرض علينا – ليس من قبيل
الترف الفكري، بل انطلاقاً من المسؤولية الوطنية والتاريخية والمعرفية – إعادة قراءة أبعاد هذا
الحدث التاريخي.. شاء البعض منا أو لم يشأ؛ من أجل تقديم رؤية موضوعية قدر الإمكان، حول
الأجيال الجديدة.. بعيداً عن التحيزات الأيديولوجية والسياسية. فلم يزل الحدث – بعد ثمانية عقود
- يحفز على البحث والدراسة والتقييم.
وفي هذا المقام، أذكر أنني في ذكرى ستينية ثورة يوليو – أي قبل 13 عاماً – كتبت دراسة
بعنوان: «ستينية ثورة يوليو»؛ (في فصل تمهيدي حول ثورات المصريين عبر العصور منذ
الفراعنة إلى يومنا هذا).. ضمن كتاب تحت الإعداد، حول حراك يناير وتمرد يونيو عنوانه:
«سنوات الحراك»؛ نشرت جانباً منه في «المصري اليوم» قبل سنوات، حاولت فيه أن أقرأ
الحدث؛ قراءة متحررة.. من القراءة ذات الموقف المسبق. قراءة تنظر إلى الحدث.. في إطار
المسار التاريخي للدولة الحديثة؛ باعتباره حلقة.. من ضمن حلقات التحول التاريخي الفارق في
هذا المسار.
وأظن أن هناك الكثير من الأسئلة.. لا تزال تبحث عن إجابات، كما أن هناك قضايا تحتاج إلى
تفكيك.. حول ملابسات/اشتباكات السياق التاريخي؛ بأبعاده: الاقتصادية، والاجتماعية،
والسياسية، والثقافية، السابقة لقيام ثورة يوليو. أسئلة وقضايا تتعلق ــ على سبيل المثال ــ بما يلي:
المسألة الاقتصادية/الاجتماعية، وما مدى احتقانها.. خاصة في العقد الذي سبق يوليو. وأثر هذا
الاحتقان على ضرورة التغيير.ولماذا لم تستطع الطبقة السياسية الحاكمة ــ أقصد نخبة ثورة
1919 ــ أن تحقق استقلال مصر.. على مدى أكثر من 30 سنة – أي من 1919 إلى 1952 –
خاصة أن نخبة 1919.. قد اكتسبت شرعيتها.. بالأساس، بتوكيل من المواطنين من أجل إنجاز
الاستقلال. وما أثر الحضور الشبابي اللافت – من أبناء الطبقة الوسطى خلال ثلاثينيات
وأربعينيات القرن الماضي – على الحياة السياسية المصرية، ولماذا لم تستطع الأحزاب السياسية
آنذاك استيعابه. كيف كانت المقدرات الاقتصادية موزعة في مصر. وما نسبة ما يملكه الأجانب
من تلك المقدرات… إلخ.
(2)
التاريخ كدراما حية تاريخية ممتدة
وبنفس النهج والروح.. التي أشرنا إليها في تساؤلاتنا وإشكالياتنا ــ وغيرها من تساؤلات
وإشكاليات يمكن أن نضيفها ــ حول المرحلة التي سبقت قيام ثورة يوليو 1952، ينبغي أن نتعامل
مع الفترة التالية لهذه اللحظة/المحطة التاريخية، أو الحلقة الجديدة من حلقات سلسلة التاريخ
الوطني المصري الحديث، بالقدر ذاته من التحليل النقدي، بحثاً عن إجابات وتفسيرات تكون
إضافة.. تثري فهمنا لتاريخنا في حقيقته: بإيجابياته وسلبياته. ومن ثم تعيننا في حاضرنا وتوجه
مستقبلنا.
ويقيني، أن النظرة إلى تاريخ مصر، لا ينبغي أن تنهج نهجاً يباعد بين مراحله. فيتعاطى الباحث
- أو القارئ للتاريخ – مع كل مرحلة.. باعتبارها منبتة الصلة بما قبلها، وبما بعدها. وهو ما حذَّر
منه المفكر والمثقف الكبير الاقتصادي الراحل «إسماعيل صبري عبدالله» – في دراسته المنهجية
التأصيلية الرائدة: «نظرة مصرية على تاريخنا الحضاري» (نشرناها بتصريح من المؤلف في
حياته في الكتاب رقم (1) من سلسلة المواطنة المعنون: المواطنة: حضارياً وتاريخياً وفقهياً؛ التي
أشرفنا على إصدارها 1996) – منتقداً التعاطي مع مراحل تاريخ مصر؛ باعتبارها فصولاً
منفصلة في دراما شعب مصر التاريخية، بدلاً من التعامل مع التاريخ.. باعتباره دراما حية
تاريخية مجتمعية ممتدة ومتواصلة؛ حتى وإن اختفت بعض الشخصيات، وظهرت أخرى،
واختفى ديكور وظهر آخر.
فمصر بمواطنيها يستمرون؛ ومن ثم تاريخهم الواحد.. الحافل بالأحداث والتحولات والإنجازات
والإخفاقات، هو تاريخ واحد.. لا تواريخ متوازية، فقبول الذاكرة الوطنية للتواريخ المتوازية،
يؤدي إلى اضطراب الذاكرة الجمعية.. المشتركة، والموحدة للعقل الوطني. كما يدفع المتحيزون
لكل ذاكرة، إلى الاكتفاء بما تحمله ذاكرتهم التاريخية.. التي – يقيناً – سوف تعكس تحيزاً، أو
مصلحةً ما، تحجب عنهم الرؤية الشاملة للتاريخ.
(3)
تتابع تجليات النهوض الوطني
في ضوء ما سبق، أظن أننا نحتاج إلى قراءة «طازجة».. لما جرى في 23 يوليو من عام
1952، خاصة وأن يوبيلها الماسي على الأبواب، كذلك الذكرى السبعون لتأميم قناة السويس..
ذروة المرحلة الثورية، والحدث الذي ساهم في الكثير من التحولات.. ليس على المستوى الوطني
المصري فقط، بل على المستويين الإقليمي والدولي (ولهذا حديث تفصيلي نعرض له في حينه).
وفي هذا الإطار، أطرح تصوراً يقارب ثورة يوليو.. باعتبارها تجلياً مختلفاً، عن التجلي الذي
ظهرت به ثورة 1919.
بلغة أخرى، اعتبار كل من ثورتي 1919 و1952.. تجليين من تجليات النهوض الوطني
المصري الحديث. وهو ما اختبرناه بحثياً.. من خلال تتبعنا لمسيرة المواطنة المصرية ــ على
سبيل المثال ــ إذ وجدنا كيف تجلت المواطنة المدنية-السياسية في ثورة 1919، وكيف تجلت
المواطنة الاقتصادية-الاجتماعية في ثورة 1952. إذن، تتبع مسيرة المواطنة.. يمكن أن يكشف
لنا إسهام كل تجلٍّ، وما افتقده، ولماذا وكيف؟
كما يمكن – من خلال دراسة مسار حركة الطبقة الوسطى المصرية، وتحولات الجسم الطبقي-
الاجتماعي المصري، والحركية الشبابية وانخراطات عناصرها في الحياة السياسية خارج
الأحزاب التي كانت قائمة، ومسار تمركز الثروة العامة للبلاد… إلخ – اكتشاف العديد من تجليات
الثورتين، وطبيعة-مدى الانقطاع والامتداد بين الثورتين. نفس النهج، لابد من تطبيقه أيضاً على
الحركية الداخلية لكل ثورة؛ فيوليو 1952 – في انطلاقتها وحتى 1956 – في تقديرنا، تختلف
عما بعدها.
كما أن يوليو السادات، تعد مغايرة ليوليو ناصر. وفي هذا المقام، نحن نميز بين يوليو الثورة،
ويوليو الدولة، ويوليو الدولة النقيض.. إن جاز التعبير.
وبعد، إن لحظات التجلي الكبرى.. لا تفهم إلا بالتقييم الجدي، والنقد التحليلي والتشريحي..
لمقدماتها ونتائجها.
… ونواصل.
نقلاً عن «المصري اليوم«