أحمد الجمال
إيلان بابيه – أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية في جامعة إكستر البريطانية، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، والمدير المشارك لمركز إكستر للدراسات العرقية والسياسية – إسرائيلي الجنسية.. وُلد في حيفا عام 1954، وتعلم وحصل على البكالوريوس من الجامعة العبرية.. يعني يهودياً إسرائيلياً، وُلد هناك وعاش وتعلم، ولكنه انتمى إلى تيار المؤرخين الجدد.. الذين أعادوا كتابة التاريخ الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية.
وهو ممن يعتقدون – بعد الدراسة والتيقن العلمي – أن عملية التطهير العرقى للفلسطينيين، قامت بالأساس على ما يُعرف بـ «خطة دالت».. التي انتهجتها الوحدات العسكرية الصهيونية (أي العصابات المسلحة) عام 1947.
ويرى أن الصهيونية.. أكثر خطورة من التشدد الإسلامي، وهو ممن يدعمون حل الدولة الواحدة، وقيام دولة ثنائية القومية للفلسطينيين والإسرائيليين.
وأضحى ممن يؤيدون الحقوق الفلسطينية؛ وفي مقدمتها عودة اللاجئين، ومقاومة الاحتلال؛ ما عرَّضه للانتقاد والهجوم في الدولة الصهيونية، فغادرها عام 2008.. بعد أن تمت إدانته في الكنيست وتلقيه العديد من التهديدات بالقتل.
كتب بابيه مقالًا في يونيو 2024.. بمجلة اليسار الجديد، يتحدث فيه عن انهيار الصهيونية، فيطرح سؤالًا عن احتمالات تعرض المشروع الصهيوني الانهيار. ويجيب بأنه – من الناحية التاريخية – توجد مجموعة من العوامل.. قد تتسبب في انهيار الدولة؛ منها أنها قد تنهار بفعل هجمات مستمرة من الدول المجاورة. أو بفعل حرب أهلية مزمنة. أو قد تنهار بعد تفكك المؤسسات العامة.. وعجزها عن تقديم الخدمات للمواطنين.
ويشبه بابيه هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023.. بزلزال، ضرب مبنى قديمًا متصدعًا. ويرى أنه.. رغم مرور 120 عامًا على تأسيس المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وهو مشروع قائم على فكرة فرض دولة يهودية.. على بلد عربي مسلم شرق أوسطي، فإن عوامل التصدع ظهرت ونحن – والكلام للمؤرخ اليهودي – نشهد بدايات عملية تاريخية.. من المرجَّح أن تُتوَّج بزوال الصهيونية.
وإذا صح هذا التشخيص.. منه، فالدولة الصهيونية على أعتاب مرحلة خطيرة؛ إذ ما إن تدرك إسرائيل حجم الأزمة، فإنها ستطلق العنان لقوة غاشمة.. لا تتورع عن أي شيء، لمحاولة احتواء تلك الأزمة، كما فعل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.. في أيامه الأخيرة.
ويرصد بابيه ظاهرة انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي.. بين معسكرين متنافسين، غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة؛ أولهما: معسكر يمكن تسميته «دولة إسرائيل»، فيه اليهود الأوروبيون العلمانيون والليبراليون، وهم في الغالب من الطبقة الوسطى.
ورغم زعمهم التمسك بالقيم الديمقراطية الليبرالية، فإنه تمسك مشكوك فيه؛ لأنهم ملتزمون بنظام الفصل العنصري المفروض على الفلسطينيين بطرق مختلفة، فيما يتمسكون بأن يعيش المواطنون اليهود في مجتمع ديمقراطي تعددي ويستثنى العرب.
أما المعسكر الآخر: فهو «دولة يهودا».. التي ظهرت بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، وتشكل تلك الدولة القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز نتنياهو في انتخابات نوفمبر 2022، ويتزايد تأثيرها في الصفوف العليا للجيش وأجهزة الأمن، وتسعى دولة يهودا إلى تحويل إسرائيل لدولة ثيوقراطية.. تمتد على كامل فلسطين التاريخية، وذلك بتقليل عدد الفلسطينيين إلى الحد الأدنى، وبإعادة بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى، ويعتقد المؤمنون بتلك الدولة.. بأن هذا سيمكنهم من تجديد العصر الذهبي للممالك التوارثية.
ويرصد بابيه.. أن الصدامات بدأت بين هاتين الجبهتين قبل أحداث 7 أكتوبر الماضي، ومن يزعم أنهما تقاربتا – بحكم المواجهة المشتركة لعدو مشترك – فهذا محض أوهام، حيث غادر نصف مليون إسرائيلي من أتباع معسكر دولة إسرائيل.. إلى خارج البلاد منذ أكتوبر 2023. وهذا – عند بابيه – مؤشر على أن «دولة يهودا» تبتلع البلاد. وهذا مشروع سياسي لن يقبله العالم العربي على المدى الطويل، وربما العالم كله.
ثم إن الأزمة الاقتصادية.. تمثل مؤشرًا ثانيًا على أن الصهيونية على أعتاب الانهيار، حيث تراجع الاقتصاد بنحو عشرين بالمائة.. في الربع الأخير من عام 2023، ويتزايد اعتماد إسرائيل على المساعدات المالية الأمريكية، وتتفاقم الأزمة بسبب عدم كفاءة وزير المالية سموتريتش، الذي يحول الأموال باستمرار إلى المستوطنات اليهودية في الضفة، ولكنه يبدو عاجزًا عن إدارة وزارته.
أما المؤشر الثالث للانهيار: فهو تزايد العزلة الدولية التي حوّلت إسرائيل تدريجيًا.. إلى دولة منبوذة، ثم يأتي التغيير الجذري بين الشباب اليهود حول العالم، إذ يبدو أن العديدين منهم مستعدون الآن للتخلي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية، والمشاركة بنشاط في حركة التضامن مع فلسطين، وهذا له تداعيات كبيرة على مكانة البلاد عالميًا، وأدى إلى تراجع قوة اللوبي الصهيوني في أمريكا، وهذا هو المؤشر الرابع.
أما المؤشران الخامس والسادس اللذان يشيران إلى أن الدولة الصهيونية على أعتاب انهيار المشروع الصهيوني، فهما – عند إيلان بابيه – ضعف الجيش الإسرائيلي، الذي لولا التسليم السريع لكميات هائلة من الإمدادات الأمريكية.. لما تمكَّن حتى من محاربة جيش صغير من المغاوير في الجنوب. ولعل تجنيد الآلاف من اليهود الحريديم – الذين كانوا معفيين من الخدمة العسكرية منذ 1948 – هو مؤشر آخر على ما يعانيه ذلك الجيش.
وأخيرًا فإن تجدد الطاقة بين الجيل الفلسطيني الشاب.. جعلته يبدو أكثر وحدة وترابطًا، ووضوحًا بشأن مستقبله ومستقبل وطنه.. مقارنة بالنخب السياسية والفلسطينية التقليدية، وهذا الشباب منشغل بإقامة منظمة ديمقراطية حقيقية؛ إما أن تكون منظمة التحرير مجددة، أو منظمة جديدة كليًا.. تسعى لرؤية تحررية، تقف على النقيض من سياسة السلطة الفلسطينية الحالية. ويبدو – حسب بابيه – أنهم أكثر ميلًا إلى حل الدولة الواحدة، وليس نموذج الدولتين، ويتمنى الكاتب وجود حركة تحرير قوية جاهزة.. لملء الفراغ الذي سينجم عن تدمير المشروع الصهيوني في فلسطين.
ومن جانبي، أعتقد أن أفكار وكتابات أمثال بابيه – من الإسرائيليين غير الصهاينة – تستحق الدراسة من جانبنا، فربما تخفف كثيرًا من تحمس البعض للمشروع الصهيوني، والتسليم بكل ما تفرضه دولته في المنطقة، بل والعداء للفلسطينيين.
وربما تضيف لأنصار نفي المشروع الصهيوني والسعي لمقاومته على الدوام ومساندة من يقاتلونه؛ فهماً أعمق لواقع المجتمع الصهيوني.
نقلاً عن «الأهرام»