عمار علي حسن..
«ولا يحمي حقك من الزوال غيرك
مانتاش ضعيف
قول كلمتك
من حبة القلب النضيف
لا تقول لصاحبك
ولا تستشير غيرك
إسأل ضميرك»
قبل ثلاثين عاماً، مدَّ إليَّ شاب.. على مشارف الأربعين، ورقة بها هذه المقطوعة الشعرية، ووجهه يشرق بابتسامة غاية في العذوبة، تجعل له في قلبك قبولًا.. فور رؤيته، ثم دعاني إلى انتخابه.
تطلعت إلى صورته المطبوعة.. إلى جانب مقطوعة الشعر، ثم الاسم «يحيى قلاش»، وكنت أعرف أنه يعمل صحفياً بجريدة «المساء»، وأنه قد شارك في العمل النقابي.. منذ أوائل الثمانينات، لكن لم يكن قد دار بيننا قبلها أي حديث.
مسَّتني مقطوعة الشعر العامي هذه – وهي من إبداع الشاعر ورسام الكاريكتير بجريدة «الأهرام» الأستاذ سعد الدين شحاتة – وأنا ممن يهيمون مع بيرم التونسي وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، وتسحرني مجازاتهم وصورهم.. كما هو في الشعر الفصيح؛ العمودي منه والحر والنثر. شعرت – لأول وهلة – أن هذه المقطوعة تمثل هذا الرجل، وأنه صادق، يذهب مباشرة إلى ما يريد، دون أن يُفرط في إعداد برنامج في صفحات، هو أول من يعرف أن الوصول إلى تحقيق ما فيه قد يكون ضربًا من الخيال.
هكذا كان يحيى طوال الوقت، صبورًا عذب الحديث، مقاتلًا دون ضجيج.. في سبيل حرية الصحافة، وتقوية دعائم نقابة الصحفيين، تشعر أن له مائة عين ترى زملاءه، وألف أذن تنصت إليهم، حتى صار سجلَّهم.. الذي يدب على قدمين، يعرف الأكبر سنًا فيهم، الذي تقف أيامه خلفه، وآخر الداخلين إلى جماعتهم، وتقف أيامه أمامه. وهي معرفة دافعها المحبة.. قبل أن يكون الواجب، لرجل عمل سكرتيرًا لنقابة الصحفيين ثماني سنوات، وهي أطول مدة يقضيها شخص في هذا الموقع.
اكتشف قلاش قدرته على الكتابة.. من إشادة مدرس اللغة العربية بموضوعات تعبيره، وعزَّز هذا بتردده على مكتبة المدرسة، حيث واصل استعارة الكتب – خصوصاً في التاريخ والسيرة الذاتية – وكذلك بعلاقته الممتدة مع أشهر بائع للصحف في مدينة منوف، واسمه «أبوالحديد»؛ يشتري تارة، ويستعير طورًا.
في المرحلة الثانوية.. التحق بجماعة «الصحافة المدرسية»، التي كانت تُصدر مجلة مطبوعة. وفي المرحلة الجامعية.. كوَّن جماعة الصحافة بكلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان. ولأن الصحافة المطبوعة.. كانت قد انتشرت بالجامعات المصرية في السبعينيات من القرن العشرين، شارك في إصدار جريدة «صوت حلوان».. التي طبعتها مؤسسة دار التحرير، وهي المكان الذي التحق به بعد تخرجه، تحديدًا في جريدة المساء، لينصت إلى نصائح كبار من أمثال عبدالفتاح الجمل؛ الذي علَّمه كيف يكون صحفيًا محترفًا، ولا يتخذ من الصحافة مطية.. لتحقيق أهداف أو تصورات سياسية بحتة، ومحمود المراغي، ومحمد عودة، وكامل زهيري، ومحمد حسنين هيكل بالتتابع.
حاز قلاش ثقة الجمعية العمومية.. كعضو بمجلس النقابة لأربع دورات متتالية، وفي 20 مارس 2015، فاز بمنصب نقيب الصحفيين المصريين، وبعد أن غادر مواقعه الرسمية هذه.. لم يعطِ النقابة ظهره، إنما يُقبل عليها طوال الوقت؛ يسأله الصحفيون فيجيب، ويطلبون مساندته فيلبي، فهو الآن أكبر العارفين الأحياء بالعمل النقابي وسطهم؛ سواء في قانونه ولائحته وإجراءاته، أو في ترتيباته وما يتطلبه من مهارة في الممارسة، وقبلها حكمة في التفكير.
في كل هذا، يؤمن قلاش بمبدأ – عبَّر عنه ذات يوم، في حواره أجراه معه د. عبد الكريم الحجراوي.. لصحيفة «المشهد» – قائلًا: «كل من يتصدَّى للعمل العام، ويُخلص له.. يعرف أن هذا اختيار له تبعات، وعلى من اختار.. أن يتحمل». ليس هذا بغريب على رجل.. يحدد الدافع الأول لالتحاقه بالصحافة.. بمحاولة التعبير عن نفسه، وتكوين موقف مما يدور حوله. ولم ينسَ هذا – وقت أن انتُخب لأول مرة لمجلس النقابة – حين أثيرت مشكلة مشروع القانون 93 لسنة 1995، فأُسندت إليه مسؤولية إدارة لجنة.. مهمتها التجهيز لمختلف الفعاليات، وعلى رأسها الجمعيات العمومية المتلاحقة، ومتابعة التكليفات الصادرة عنها، عبر اجتماعات استغرقت ما يزيد عن عام. دعا قلاش وقتها كبار الكُتاب.. ليشرعوا أقلامهم وينزلوا المعركة، كان من بينهم الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي أرسل له كلمة لإلقائها باسمه.. موجَّهة للجمعية العمومية، قال فيها: «هذا القانون.. يعكس أزمة سلطة شاخت في مواقعها».
على مدار تاريخه النقابي، يزاوج قلاش بين الاهتمام بحرية الصحافة، وتحسين أوضاع الصحفيين.. عبر ملف علاقات العمل، وملف الأجور، وملف موارد النقابة، ورفض حبس أي صحفي في قضية نشر.. غير مكتفٍ بالكلام، إنما رأيناه يزور المحبوسين في السجون، ويغضب لهم، حتى ناله اعتداء بدني في سجن طرة.. عام 1998، وهو ينافح عن زملائه. ثم رأيناه يرفض تدخل وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي.. في شؤون النقابة، وكتب مقالًا توجَّه فيه إلى العادلي قائلًا: «النقابة لا تقبل دروسًا، أو وصاية من أحد»، ورأيناه يشارك في تنظيم احتجاجات، نفذتها النقابة في موقفها بخصوص إلغاء الحبس في قضايا النشر.
لقلاش قول لافت، يجب أن نتوقف عنده.. ألا وهو: «أنا ابن الدولة، وحزبي هو الجمعية العمومية للصحفيين»، ويعني بالدولة هنا، المجتمع.. بتاريخه الذي يمتد إلى سبعة آلاف سنة، والأرض التي يعيش عليها المصريون.. بمواردها الطبيعية، والعطاء الحضاري والمعنوي والرمزي لهم، ولا يعني بها مجرد السلطة السياسية.
بدا قلاش – طوال وجوده عضوًا في مجلس النقابة، أو على رأسه – يقدم «الديمقراطية التشاركية».. على الـ«الديمقراطية التمثيلية»، فلم يتوهَّم أنه – ما دام قد تم انتخابه – فهو مطلق اليد؛ يفعل ما يشاء.. طوال فترة انتخابه، إنما كان ينصت إلى الآخرين، ويستدعي كبار الصحفيين في الملمات.. ليشاركوا في صناعة القرار، بل يفتش في تاريخ السابقين.. عما يعينه على تجاوز الأزمات.
قبل أيام من انتخابات نقابة الصحفيين – التي جرت يوم الجمعة الماضي – اتصلت بالأستاذ يحيى قلاش طالباً منه أن يُذكرني بما نسيتُه.. عن لقاء حسني مبارك مع نقيب الصحفيين الأسبق جلال عارف، فأفادني بالكثير، بل بالرواية الحقيقية، إذ أنني ممن يعتبرونه «الذاكرة الحية للنقابة» الآن. ويحلو لي أحيانًا أن أخاطبه بـ «شيخ حارة الصحفيين»، لأنه يعرف كل شاردة منها وواردة إليها.
نقلاً عن «المصري اليوم»