نيفين مسعد
يا مدرستي.. يا مدرستي
ما أحلاكِ يا مدرستي
أقضي فيكِ طول الوقتِ
مع إخواني.. مع أصحابي
بين الدرسِ والألعابِ
مثلي مثل كل الأمهات، ما زلتُ أذكر أول يوم لأولادي في المدرسة. اليد الصغيرة – التي تقبض على يدي – لا تريد أن تُفلتها أبداً، نظرات الاستعطاف في عيونهم.. ثم دموع الخوف من المكان الجديد، والناس الأغراب، والبُعد عن الـ safe zone، باي باي من وراء فتحات باب المدرسة.. تُجمدني في مكاني، ثم تحبسني في سيارتي لبعض الوقت، لعلني أسمع «يا مااااما».. تأتي من بعيد، فأهرول.
نظل نحلم باللحظة التي نضع فيها أطفالنا على أول الطريق، بعد أن تنتهي المشاورات حول المدرسة الأفضل، ونظام التعليم الأنسب. نستخدم كل صلاتنا الشخصية.. للضغط من أجل تجاوز قوائم الانتظار الطويلة بلا نهاية. نطالب الممتحنين بأن يتسامحوا مع خجل أطفالنا.. أثناء المقابلة الشخصية، ويغفروا لهم عنادهم المشروع. نحسب بالورقة والقلم.. ما يتبقى لنا من رواتبنا، بعد أن نقتطع منها المصروفات المدرسية.. التي باتت تقصم ظهر الغني والفقير؛ فكلنا نريد لأبنائنا أن يكونوا أفضل منَّا.. وهذه المقولة صحيحة جداً ومجرَّبة تماماً. وأن يكون قلب الأم خفيفاً أو لا يكون، فهذه المشاعر الإنسانية عابرة لقلوب كل الأمهات، ولو بدرجات متفاوتة، وهذا معناه أن اللحظة التي يغيب فيها أطفالنا عن أنظارنا.. داخل مدارسهم لأول مرة، تكون لحظة صعبة عليهم بالتأكيد، لكنها صعبة علينا أيضاً.
***
عندما شرعتُ في الكتابة عن موضوع أطفالنا في المدارس بعد فاجعة المدرسة الدولية إياها، حاولتُ أن أكتب من زاوية اجتماعية بحتة.. وأطرح أسئلة للنقاش من نوع: ماذا حدث لمدارسنا وفي مدارسنا، بل ماذا حدث لمجتمعنا ككل؟ هل صحيح فعلاً أن ما حدث قديم وكثير؟ لكن شجاعة الاعتراف عند الأطفال والأهالي.. هل هي التي رفعَت عنه الغطاء؟ هل يجب أن ننتبه إلى أن اهتمامنا المبالغ فيه جداً بمظاهر التديُّن.. جاء على حساب اهتمامنا المحدود جداً بجوهر الدين؟ هل يُجدي التفسير الطبقي في فهم ظاهرة تحرش عُمَّال المدرسة بالتلاميذ.. من خلال مقارنتها بظاهرة تحرش خدم القصور بأبناء المماليك كما ذكر أحدهم؟
وهنا يثور السؤال الفرعي التالي: هل العمَّال هم وحدهم المتحرشون؟ هل آن الأوان كي يبحث معارضو عمل المرأة.. عن شمَّاعة أخرى يعلقون عليها الاضطرابات النفسية للأطفال، باعتبار أن أبناء النساء غير العاملات.. مثلهم مثل أبناء النساء العاملات، يتعلمون ويذهبون إلى المدارس، وفي بعض المدارس تحدث انتهاكات؟ هل هناك فائض عنف في المجتمع.. لأسباب كثيرة يتوجَّه للمخلوقات الأضعف، ويستهدف الصيد الأسهل؟
ترجُّني رجَّاً عبارة «الصيد الأسهل». هل يُعد انفصال التربية عن التعليم.. هو الأصل في المرض؟ أم هو عَرَض من أعراضه؟ هل نحن كمصريين نعاني وحدنا من هذه الظاهرة، أم أننا جزء من ظاهرة أشمل عنوانها العنف المدرسي؟ هل سنجد أنفسنا مضطرين – في المدى القصير – للجوء للتعليم عن بُعد، ونخسر تفاعل أطفالنا مع أقرانهم بمنطق أخفِّ الضررين؟
أقول: حاولتُ أن أدخل للموضوع من هذا المدخل العلمي، ثم… سقطتُ سقوطاً حراً في فخ أمومتي، فقررتُ أن أكتب كأم.. عن أمهات الضحايا، وأترك كل الأسئلة الكبيرة والخطيرة في عُهدة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والمجلس القومي للأمومة والطفولة، والأطباء النفسيين.
***
أن نفترض توفُّر حد أدنى من الأمان.. فهذا هو الشئ الوحيد الذي يجعلنا نُودِع فلذات أكبادنا في هذا المبنى، ونسلِّم براءتهم إلى هذه الإدارة، ونعهد بحمايتهم إلى الجميع. منظومة متكاملة.. نضع ثقتنا فيها، ونوكِّلها توكيلاً غير مكتوب.. لترعى أطفالنا في غيابنا. هل يمكن أن يدَّعي أحد اليوم.. أنه آمن على أطفاله؟
ما حدث أشبه بالزلزال.
***
عبر فضائية مشهورة، أتى صوت أم واحدة من ضحايا المدرسة الدولية إياها.. يحكي لنا عن التجربة المؤلمة التي تعرَّضت لها ابنتها، مع آخرين. أطفال في أولى وثانية حضانة، يُهدَّدون ويروَّعون.. وتُنتهك براءتهم، ويُلَقَّنون الكذب والمراوغة.. على عكس طبيعتهم. يُعرض عليهم الجُناة الواحد تلو الآخر، وتُطلب شهادتهم داخل أقسام الشرطة، فيستعيدون تفاصيل الألم والخوف والجريمة. في أثناء الحكاية يتقطَّع صوت الأم ويتهدَّج، وينطق بالقهر الشديد.. لكنه ينطق أيضاً بالإحساس بالمسؤولية، وبالتصميم على إنقاذ كل أطفال المدرسة إياها.. من الجحيم. تفكر الأم، وتبحث، وتفتش، وتسأل، وتراقب وتخطط.. وهذا كله في السر.. حتى لا يُفلت الجناة، وتمر الجريمة بدون عقاب.
تنسق مع أمهات أخريات، وتتردد يومياً على المدرسة، وتضع عينيها في عيون الجُناة، وتؤجِّل دموعها.. إلى ما بعد دقات جرس المرواح. وأخيراً جداً، تحمل الأم طفلتها – والأدلة والشهود – وتتقدم ببلاغ إلى النيابة العامة.
أتوقف هنا أمام الأيام الصعبة جداً.. الفاصلة بين وعي الأم بما جرى لابنتها، وبين إلقاء القبض على المجرمين.
إحساسها صباح كل يوم، وهي ترسل ابنتها للمدرسة إياها.. كي لا تثير الانتباه. تصنع لها ضفيرتها كالمعتاد، وتضع لها العروسة وكراسة التلوين.. مع غيار نظيف، والساندويتش والحلوى.. في حقيبتها كالمعتاد، وتُقبِّلها وتُسلِّمها بيدها.. للمشرفة في أتوبيس المدرسة أيضاً كالمعتاد.
هل خطر ببالنا كأمهات.. شعور الأم الشجاعة في لحظة التسليم والتسلم هذه؟ ثم هل خطر ببالنا كأمهات.. كيف كانت تمر عليها ساعات اليوم الواحد، وساعات الأيام كلها، قبل أن يُفتح ملف القضية؟
ليتنا نوسِّع الزووم قليلاً.. حتى نرى كل الزوايا والأبعاد، فثمة جوانب تحتاج ضوءاً إنسانياً.
***
بالتدريج.. تتآكل المساحة الفاصلة بين الخيال والواقع، فالواقع يثبت لنا.. أنه قادر على إدهاشنا؛ بأكثر كثيراً.. مما تفعل حلقات مسلسل أو فصول رواية.
وقديماً قالوا.. إن الدهشة مفتاح المعرفة. لكن أما وقد اندهشنا بما يكفي، وأحطنا علماً بما حدث.. فماذا نحن فاعلون؟ ومع مَن؟ ومَن. ومَن؟
ما أكثر القطط.. التي نحتاج أن نعلِّق الأجراس في أعناقها.
نقلاً عن «الشروق»