د. نيفين مسعد
انتهى مقال الأسبوع الماضي.. إلى أن الحديث عن «نزع سلاح» حزب الله بالقوة. وتكليف الجيش اللبناني بهذه المهمة.. يُنذر بفتنة داخلية، ويهدد الاستقرار السياسي للبنان؛ الذي يعاني أصلاً مجموعة مركبة من المشكلات. وأنه ما دام ارتبطت نشأة الحزب وتسلّحه.. بالاحتلال الإسرائيلي للبنان، فإن زوال الاحتلال يؤدي لزوال أسباب احتفاظ الحزب بسلاحه. ويلاحظ أن هذه النتيجة تتناقض مع المنطق.. الذي بُنيت عليه ورقة توماس باراك؛ من أن سلاح الحزب هو السبب في الانتهاك الإسرائيلي لسيادة لبنان.. سواء بالمزيد من الاحتلال لأراضيه، أو بالطلعات الجوية، والقصف المستمر للجنوب وللعاصمة بيروت نفسها.
وبسبب هذا المنطق المقلوب – في الربط بين سلاح حزب الله والسلوك الإسرائيلي، واعتبار أن الأول يُعد هو السبب في الثاني وليس العكس – تضمَّنت ورقة باراك أربع مراحل، يربط كل منها التطور في مسار نزع سلاح الحزب، بالتطور في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ووقف أعماله العدائية ضد لبنان.
ولا يهدف هذا المقال إلى مناقشة المنطق المقلوب لورقة باراك، لكنه يسير معها.. في الربط بين المسارين. وفي هذا الإطار، يثير بعض النقاط الأساسية التي تتعلق بموقف الورقة.. من أزمة عدم الثقة في استعداد إسرائيل لاحترام تعهداتها، ومن حيث فاعلية الآلية الدولية الخماسية – التي تضمنتها الورقة – لمراقبة تنفيذ بنودها المختلفة. وأخيراً، من حيث أدوات المحاسبة الواردة فيها.. عند أي انتهاك لكل من الطرفين الإسرائيلي واللبناني لالتزاماته.
بدايةً توجد فجوة ثقة في احترام إسرائيل تعهداتها الدولية بشكل عام، ولا تشذ الحالة اللبنانية عن هذه القاعدة. فعندما وافق مجلس الوزراء اللبناني على الأهداف المذكورة في ورقة توم باراك، كان قد مضى نحو ثمانية أشهر على توقيع إسرائيل اتفاقية وقف الأعمال العدائية مع لبنان في 27 نوفمبر 2024؛ وهي الفترة التي لم تكد تتوقف فيها الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية.. بكل الطرق الممكنة.
واستغلت إسرائيل أن البند الرابع من الاتفاقية المذكورة – الذي أشار إلى أن الالتزامات الواردة فيها لا تقيد أياً من إسرائيل ولبنان من ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس بما يتماشى مع القانون الدولي – فاستخدمت إسرائيل وحدها.. دون حزب الله، ما تعتبره – من وجهة نظرها – حقها في الدفاع عن نفسها. لكن حتى لو اعتبرنا أن جلسة مجلس الوزراء اللبناني.. كانت تمثل نقطة ومن أول السطر، فإنه في يوم انعقاد الجلسة نفسه، أغارت إسرائيل على البقاع، وقتلت 6 من مواطنيه، وأصابت 105 آخرين. ومن المبادئ الأولية في مجال العلاقات الدولية، أن من عوامل إنجاح أي مفاوضات.. تهيئة البيئة المحيطة بها وتجنب مصادر التشكيك.
وبالتالي، فإن السؤال المثار – الذي يتبادر إلى الذهن – هو أي رسالة كانت تهدف إسرائيل لإرسالها.. في نفس يوم اجتماع مجلس الوزراء اللبناني؟ الرسالة المباشرة هي.. رسالة تحد لمضمون الورقة، باستمرار استخدام القوة في التعامل مع حزب الله، وعلاوة على أن هذه الرسالة تقوض مصداقية التسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي-اللبناني، فإنها تضعف موقف الحكومة اللبنانية في مواجهة حزب الله.. الرافض للتخلي عن سلاحه قبل التحرير.
وفي مجال المراقبة لتنفيذ التزامات الطرفين، اشتملت المرحلة الأولى (من صفر-15 يوماً) على إعادة تفعيل الآلية الخماسية.. المكونة من لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وقوات اليونيفيل؛ بحيث تعقد أطراف هذه الآلية اجتماعات دورية نصف شهرية.. بهدف المراقبة. ومن المعلوم أن اتفاقية نوفمبر 2024 – لوقف الأعمال العدائية – كانت قد وسعت من الآلية الثلاثية (الموجودة سلفاً).. بضم كل من الولايات المتحدة وفرنسا إليها.
وأذكر جيداً كيف أن هذا التوسيع قد أنعش حينها الآمال.. في إمكانية الحفاظ على هدوء الحدود الإسرائيلية-اللبنانية؛ بعد أن كانت الخروقات الإسرائيلية قد وصلت إلى حد استهداف قوات اليونيفيل نفسها، واتهامها بالتواطؤ مع حزب الله. لكن على مدار ثمانية أشهر.. من انتهاك إسرائيل وقف إطلاق النار مع لبنان، لم نكد نسمع صوتاً لهذه اللجنة، وذلك مع العلم بأن لبنان قدم شكوى لمجلس الأمن ضد ممارسات إسرائيل في الجنوب اللبناني في فبراير الماضي.. دون جدوى. وبالتالي فإن السؤال المشروع هو: ماذا عطل قيام اللجنة الخماسية من قبل؟ ولماذا يعاد النص على إعادة تفعيلها، وهي التي لم تتدخل أصلاً؟
أخيراً وفيما يتعلق بالعقوبات المزمعة حال انتهاك الالتزامات، تكشف اللغة المستخدمة في الورقة عن انحياز مكشوف لمصلحة إسرائيل، الأمر الذي يمثل – كالعادة – غطاءً لإفلاتها من العقاب؛ فتحت عنوان عقوبات متدرجة، تشير الورقة إلى أنه في حال وقوع الخرق من جانب إسرائيل.. يكون هناك توبيخ أممي لها، وفي حال وقوع الخرق من جانب لبنان.. يتم تجميد مساعدات عسكرية واقتصادية له. وهنا يبدو التمييز.. كأوضح ما يكون. ويبدو من المنطقي السؤال: متى كانت الإدانة الدولية تردع إسرائيل عن التمادي في سياساتها العدوانية من غزة والضفة إلى سوريا إلى لبنان؟
الخلاصة التي ننتهي إليها.. من قراءة ورقة باراك، أنها – مثلها مثل اتفاقية وقف جميع الأعمال العدائية – لا تضمن توقف الممارسات الإسرائيلية. وأنه ما لم تتغير توازنات القوة الإقليمية في المنطقة، فإن إسرائيل مستمرة في توسعها وعدوانها.
أما الكلمة الأخيرة فهي تخص مستقبل سلاح الحزب، فلو افترضنا جدلاً أن الحزب وافق على تسليم سلاحه، أو تم نزعه منه، فإن هناك أفكاراً متداولة.. حول تدمير هذا السلاح، بدلاً من أن يذهب للجيش اللبناني.. الذي يعاني محدودية تسليحه.
والمعنى الصريح لهذه الأفكار، هو أن مشكلة إسرائيل مع لبنان.. تتجاوز سلاح حزب الله، إلى سلاح الدولة اللبنانية نفسها؛ حفاظاً على تفوق إسرائيل على كل دول المنطقة دون استثناء.
نقلاً عن «الأهرام»