عندما دافع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن ولي العهد السعودي هذا الأسبوع بشأن مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، لم يقم الرئيس الجمهوري فقط بإثارة اتهامات متجددة من المنتقدين بأن لديه انحيازا للزعماء الذين يحكمون بقبضة من حديد.
فقد أظهرت تصريحات ترامب، التي جاءت متناقضة مع ما خلصت إليه المخابرات الأمريكية، بما لا يدع مجالا للشك مدى ابتعاد إدارته عن الدعم الأمريكي التقليدي لحقوق الإنسان على مستوى العالم.
وقد عملت تقريبا جميع الإدارات الأمريكية في الفترة الماضية مع قادة من ذوي السجلات الضعيفة في مجال حقوق الإنسان من أجل تعزيز المصالح الأمريكية.
لكن ترامب مضى إلى ما هو أبعد من ذلك، فهو لم يكتف فقط بالإشادة بحكام سلطويين مثل قادة السعودية والمجر والصين والسلفادور، وإنما أيضا لم يظهر حرصا يذكر على كبح جماحهم. وبدلا من ذلك اتبع نهجا يركز على اغتنام الصفقات.
وقد تجلى مدى تغير سياسة الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان في عهد ترامب في المكتب البيضاوي يوم الثلاثاء عندما نفى أن يكون لولي العهد محمد بن سلمان أي دور في مقتل خاشقجي، أحد منتقدي القيادة السعودية، على الرغم من أن تقييما للمخابرات الأمريكية أشار لعكس ذلك.
وقال بريت بروين المستشار السابق للسياسة الخارجية في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما والرئيس الحالي لشركة (جلوبال سيتويشن روم) الاستشارية ” لقد تجاهل ترامب بعض المبادئ الأساسية التي تقوم عليها علاقات الولايات المتحدة مع العالم. إن كلماته وأفعاله تعطي الضوء الأخضر للزعماء المستبدين لفعل ما يريدون”.
وركز ترامب هذا الأسبوع بدلا من ذلك على مساعدة الحاكم الفعلي للسعودية على إعادة تأهيل صورته العالمية، وأقام له استقبالا رسميا في البيت الأبيض وأشاد بالعلاقات الاقتصادية والأمنية المزدهرة مع أكبر دولة مُصدرة للنفط في العالم وأتاح له لقاء الرؤساء التنفيذيين لأكبر الشركات الأمريكية.
ويتماشى ذلك مع استعداد الإدارة الأمريكية على ما يبدو للتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة من قبل قادة آخرين تجمعهم علاقات ودية مع ترامب مثل الرئيس التركي طيب أردوغان ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
في غضون ذلك، يواجه ترامب اتهامات تثير تساؤلات بانتهاك حقوق الإنسان ضد حكومات تتعارض فكريا مع إدارته، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، مما يثير القلق حيال استهدافه ملفات حقوق الإنسان بشكل انتقائي.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي في بيان ردا على هذه الانتقادات “جميع إجراءات الرئيس فيما يتعلق بالسياسة الخارجية تكون من منظور أجندة ’أمريكا أولا’ التي انتُخب لتنفيذها. ولا أحد يهتم بحقوق الإنسان أكثر من الرئيس ترامب”.
وسبق أن تعرض عدد من الرؤساء الأمريكيين لانتقادات بسبب غض الطرف عن حقوق الإنسان.
وعلى سبيل المثال، اتهم المدافعون عن حقوق الإنسان سلف ترامب الديمقراطي جو بايدن بعدم ممارسة الضغط الكافي على إسرائيل بشأن الأزمة الإنسانية في غزة خلال العامين الماضيين.
* إعادة توجيه سياسة حقوق الإنسان
يقول بعض المحللين والمسؤولين الأمريكيين السابقين إن ترامب، بعد مرور 10 أشهر من ولايته الثانية، أخذ هذا النهج إلى مستوى جديد.
غير أن مساعدي ترامب نفوا أي منفعة شخصية تعود عليه من تطوير العلاقات مع القادة الآخرين ويصرون على أن أسلوبه في الدبلوماسية عبر العلاقات الشخصية يعزز مصالح الولايات المتحدة.
في عهد ترامب، لم يتم تجاهل مسألة حقوق الإنسان بقدر ما تم تكييفها في إطار أولوياته من أجل إبرام الصفقات الاقتصادية وتنفيذ سياسات يرى أنها تروق لقاعدته من مؤيدي شعار (لنجعل أمريكا عظيمة مجددا).
وشمل ذلك إدخال تعديلات شاملة لجهاز حقوق الإنسان في وزارة الخارجية، الذي كان دوما مرتكز الولايات المتحدة للترويج التقليدي لقيم الديمقراطية.
وفي عهد وزير الخارجية ماركو روبيو، قلصت الوزارة تقريرها السنوي لحقوق الإنسان وأعادت توجيه مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل لترسيخ التركيز على “القيم الغربية”.
وبرر مساعدو ترامب تحولهم في التركيز على حقوق الإنسان، بما في ذلك الاهتمام المحدود بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، بأنه إحجام عن التدخل في الشؤون السيادية للدول الأخرى.
إلا أن الإدارة الأمريكية تدخلت علنا في السياسة الأوروبية للتنديد بما تصفه بأنه قمع لزعماء اليمين في دول مثل رومانيا وألمانيا وفرنسا، واتهمت السلطات الأوروبية بفرض الرقابة.
كما أنها مارست الضغوط على الحكومة اليسارية في البرازيل بسبب محاكمة الرئيس السابق جايير بولسونارو، حليف ترامب اليميني الذي أدين بالتخطيط لانقلاب للبقاء في السلطة بعد خسارته في انتخابات عام 2022.
وفي حين يغض ترامب الطرف في أغلب الأحيان عن قضايا حقوق الإنسان في ظل الحكومات اليمينية، بما في ذلك تقارير عن التعذيب في سجن كبير بالسلفادور، فإنه ينتهج أسلوبا صارما مع الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بالتركيز على ما يقال إنها صلات له بتهريب المخدرات. ويواجه الزعيم الاشتراكي اتهامات واسعة بالقمع الشديد للمعارضة السياسية.
ودافع النائب الأمريكي برايان ماست، وهو جمهوري من فلوريدا وحليف مقرب من ترامب، عن تعامل الإدارة الأمريكية مع ملفات حقوق الإنسان قائلا إن السياسة الخارجية للرئيس الجمهوري ساعدت في إنهاء صراعات.
وقال لرويترز “أعتقد أن ذلك يُظهر على الأرجح أعظم النتائج الإنسانية التي يمكن لأي شخص أن يلحظها”.
ربما كان دفاع ترامب عن ولي العهد السعودي خلال أول زيارة له للبيت الأبيض منذ أكثر من سبع سنوات هي اللحظة الأكثر وضوحا حتى الآن لنهج الرئيس الأمريكي.
وعندما جلس الأمير محمد بن سلمان بجواره، أخذ ترامب يردد القول إنه لشرف له أن يكون صديقا لولي العهد، وقال إنه لم يكن لديه علم بعملية قتل خاشقجي، كاتب مقالات الرأي بصحيفة واشنطن بوست، على يد عملاء سعوديين في قنصلية المملكة في إسطنبول.
وأثنى أيضا على ولي العهد فيما يتعلق بحقوق الإنسان على الرغم من قمعه للمعارضة في وقت يمضي فيه لتخفيف بعض القوانين الاجتماعية.
وقال السناتور الأمريكي بيرني ساندرز لرويترز “يضع ترامب أمريكا في صف الطغاة ورجال الأعمال فاحشي الثراء”.
* استقبال سعودي حافل لترامب
جاءت زيارة ولي العهد السعودي إلى واشنطن هذا الأسبوع في أعقاب زيارة ترامب إلى المملكة في مايو أيار، التي كانت أول وجهة خارجية في ولايته الثانية في البيت الأبيض. وشهدت تلك الزيارة استقبالا حافلا للرئيس الأمريكي.
وقد يأخذ زعماء آخرون لديهم سجلات مضطربة في حقوق الإنسان العبرة من هذا الاستقبال.
ولم يخف ترامب إعجابه بالزعماء الأجانب الذين يتمتعون بسلطات واسعة في الداخل. إذ مدح صداقاته الشخصية مع أردوغان وأوربان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يواجه معه صعوبات في التوصل لاتفاق بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا، والرئيس الصيني شي جين بينغ، رغم التوتر بشأن التجارة والرسوم الجمركية.
واتهم بعض المنتقدين ترامب وإدارته بتقويض الديمقراطية في الداخل وصورة الولايات المتحدة في الخارج باعتبارها حصنا لسيادة القانون، من خلال عمليات الترحيل الجماعي وتهديد المؤسسات الإخبارية والاستهزاء بقرارات المحاكم، وهو ما ينفيه مساعدو الرئيس.
وأمر ترامب بشن هجمات أسقطت قتلى على قوارب تقول إدارته إنها تستخدم لتهريب المخدرات في منطقة البحر الكاريبي وشرق المحيط الهادي، وهو ما يقول بعض الخبراء إنه ينتهك القانون الدولي.
وقال جون سيفتون مدير قطاع آسيا في منظمة هيومن رايتس ووتش “لم يعد لحكومة الولايات المتحدة أي مصداقية في قضايا حقوق الإنسان، سواء في الداخل أو في الخارج”.