Times of Egypt

وحدتنا الوطنية ستعبر أزمة «الطفل ياسين»

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

(1)
بشكل واضح وصريح، أنا ضد من يدافع عن هذا المتهم باغتصاب طفل مدرسة البحيرة.. لأنه مسيحي، وضد من يدينه لأنه مسيحي.
هذه قضية.. لا علاقة لها بدين أو طائفة أو مذهب أو طبقة أو ثقافة، ولا حتى بجهة تتبعها مدرسة. هذه جريمة عابرة لكل هذا، ورأيناها متكررة في أماكن عدة، وبين حين وآخر، وما وصل إلى مسامعنا منها هو أقل القليل، لأن الضحايا يبلعون ألسنتهم.. مخافة عار يتوهمونه، فيفلت المجرمون من العقاب.
فلا تفتحوا باباً لسجال عقائدي أو طائفي.. يضر بمجتمعنا، ولا تكونوا منساقين وراء متعصبين من هنا وهناك، كونوا فقط مع الحق والحقيقة، وتعاطفوا مع الضحية وليس الجلاد. وكل من تدخَّل أو توسَّط، ويتدخَّل أو يتوسَّط – من أجل تعمية على الحقيقة – يرتكب خطيئة كبرى في حق مجتمعنا، ويضر بوحدتنا الوطنية، التي يجب ألا نترك فيها جرحاً يتقيَّح، بل ننظفه معاً.
ليكن كل منا إنساناً قبل أي شيء، وليضع كل مَن في رأسه عقلاً، وفي قلبه إيماناً، وفي نفسه ضميراً، وفي عروقه دماً، ابنه مكان ياسين، ونفسه مكان أهله.
(2)
كتب هاني منسي: «رسالة إلى الإخوة المسلمين اللي بيروحوا يشتروا قلوب زعف وسنابل قمح وتيجان مضفورة… إلخ: ميصحش كده يا جماعة والنبي. مش معقولة كده.. والمصحف، انتوا غليتوا الحاجة علينا، وبعدين مابتعرفوش تفاصلوا في الحاجات دي، والبياعين بيستغلوكم.. كل سنة وإحنا كلنا بخير وسلام يا مصريين». رد عليه شمس محمود: «انتوا برضوا رحتوا اشتريتوا مكسرات ولب وسوداني وترمس لعيد الفطر، إشمعنا إحنا بقى.. كل عيد والمصريين كلهم بخير، وفي رباط إلى يوم القيامة»، فيما قال إبراهيم طاهر: «يا سلام، يعني اشمعنا مجدي صاحبي بيروح يشتري فانوس رمضان لماريا ويؤانا وجوجو».
وبمناسبة رمضان، أستعيد حواراً سابقاً يماثل هذا، قرأته قبل شهر رمضان، جاء على النحو التالي: «رحت أشتري فانوس رمضان لقيته بألفين جنيه، فحمدت الله على أني مسيحي». هكذا كتب المصري هاني بخيت، على منصة إكس، فرد عليه سامي أبو تيرا: «يعني إيه مسيحي، ده مش عذر، ما إحنا بنجيب شجرة الكريسماس.. كل سنة والمصريين بخير». رد بخيت: «رمضان كريم يا رب على كل المصريين»، وهنا تدخل ثالث يسمي نفسه «العزة لله» قائلاً لبخيت: «اتفضل، ابعت لي حد يكون في القاهرة، والفانوس هدية مني لك»، رد بخيت: «حبيبي، ربنا يكرمك، ورمضان كريم علينا جميعاً».
(3)
اعتادت الفنانة الكبيرة زينات صدقي – رحمة الله عليها – شراء الكثير من المصاحف، لتُهدي كل من يزورها واحداً. وفي آخر سنوات عمرها، وحين جلست في بيتها.. دون عمل، لأن المعروض عليها قد ينال من تاريخها الفني العريض، عانت من ضائقة مالية، فكانت تكتب دعوات إلى الله، وتضعها في صفحات من المصحف؛ من قبيل «يا رب أنا مابشتغلش دلوقتى فاسترني، وسدد ديوني، وإديني الصحة».
وفي يوم زارها جارها – وكان قسيساً اسمه فايق – ليعودها في مرضها، وكان هذا قبل وفاتها بقليل، فقالت له:
ـ أنا عاوزة أديك هدية، بس معنديش غير المصحف.
رد عليها، مبتسماً:
ـ طبعاً، أحلى هدية كتاب الله.
وتقول حفيدة زينات صدقي، إن أبناء عم فايق لا يزالون يحتفظون بالمصحف، ويضعونه في صالون الشقة إلى جانب الإنجيل.
● من كتاب «في بيوت الحبايب.. الأبناء يفتحون خزائن الأسرار»، للكاتبة الصحفية زينب عبد اللاه ـ الدار المصرية اللبنانية
(4)
طوقت هذا الرجل في امتنان.. وأنا ألتقط صورة معه، وكيف لا أفعل هذا وهو أول من علمني حروف الكتابة، وأرقام الحساب، وفتح أمامي الطريق، في وقت لم يكن لأمثالي غيره، لينتشلني من العوز، في تلك القرية المعزولة المنسية.
حين رأيته قادماً إلى سرادق عزاء والدتي – الذي أقمته في قريتي – جريت نحوه، كما كنت أفعل في الأيام البعيدة، أنا ومَن معي في مدرسة.. فتحت أبوابها لأول مرة لنا في أكتوبر من عام 1973.
كان الأستاذ جاد وقتها شاباً رشيقاً، تخرَّج في «دار المعلمين»، يأتي من قرية «زهرة» المجاورة.. إلى مدرستنا في قرية الإسماعيلية، التي كان اسمها الوصيلة وأكلها النيل في فيضانه عام 1930.
يأتي بصحبة مدرسين من القرية نفسها، ومن قرية «صفط اللبن» المجاورة، وكنا نصل إلى المدرسة مبكراً، ثم نخرج جرياً على الطريق الترابي الناعم.. لنستقبلهم على بُعد خمسمائة متر أو يزيد من مبنى المدرسة، نتحلق حول ركائبهم، حماراً كان أو دراجة، ونهتف لهم.. هم وناظرنا العظيم الأستاذ بهاء، الذي كان يقول عنا.. إننا طيور صغيرة، عليه أن يهدهدها ويغني لها، وينثر لها الحب حتي تأتلف المدرسة، وتحبها.
جاء إلى عزاء والدتي وجالسني، وكنت لم أره منذ سنوات بعيدة، فشعرت أن الزمن قد تبخر، وعدت في حضرته ذلك التلميذ.. الذي يتهجى الحرف ويرسم الرقم، ويشق طريقه إلى الأمام.
تحية لأستاذي جاد عثمان، ولرفاقه الذين علمونا. أساتذتي: نبيل أنس خليل، وفتحي محمد حسين، وعطية حنين، وبولس صاروفيم.
تحية لناظرنا، المربي الفاضل الأستاذ بهاء، الذي عدنا إلى الدراسة بعد إجازة أيام حرب أكتوبر 1973، ولم يكن في مدرستنا الجديدة.. على الدنيا سوى الفصل الأول الابتدائي، لنجده قد ألَّف لنا نشيداً نردده في طابور الصباح، ونحن ننظر إلى العلم:
«أيها العلم المصري
دُمت خفاقا على أرضنا الخضراء
رفعك جنودنا في سيناء
وضحى لأجلك رجال أوفياء
فلهم التحية ومنا الفداء
حيوا معي هذا العلم
تحيا جمهورية مصر العربية». (ثلاث مرات).
وكان النشيد والهتاف يخرج من قلوبنا جاداً، ومعنا يهتف الأستاذ جاد.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة