نبيل فهمي
العالم مضطرب، و«قوة القانون».. صارت خاضعة لـ«قوانين القوة».
شرق أوسطياً، برزت مخاوف متزايدة.. بشأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي، وتوسيع المستوطنات، والممارسات اللاإنسانية في فلسطين، وتحديات دولية عديدة.. حول أوكرانيا؛ والتنافس الجيوسياسي؛ والانعزالية، وتجاهل القانون الدولي، والمناخ، والفقر، وعدم الوفاء بأهداف التنمية المستدامة.
ستواصل الولايات المتحدة ممارسة نفوذها على النظام العالمي.. في المستقبل القريب، وإنما بشكل أقل حصرية. وهناك اهتمام متنامٍ بـ«القوى المتوسطة»، وكيفية تعاملها مع الفوضى الراهنة، ونأمل أن يكون لهذه القوى دور.. في تشكيل نظام عالمي جديد، يتناسب مع مصالح غالبية المجتمع الدولي، ويستجيب لها.
تاريخياً، من المفترض أن «القوى المتوسطة».. هي الدول غير المنحازة أو الدول النامية، التي قررت الابتعاد عن الكتلتين المتنافستين الشرقية والغربية. لذلك، لم يكن من المستغرب – في هذا السياق – أن تتلقى حركة عدم الانحياز دعوة لحضور فعالية.. نُظمت بإندونيسيا؛ حول دور القوى المتوسطة.. بالتزامن مع الذكرى السبعين لمؤتمر باندونج.
وفي وقت باتت فيه القوى الكبرى.. تبحث عن هويتها، وتنظر إلى النظام العالمي الحالي.. على أنه عاجز وعديم الجدوى، أصبح على القوى المتوسطة.. الاضطلاع بدور أكثر فاعلية. ولم يعد هذا التصنيف ينطبق حصرياً عليها.. مع تفكك البنية ثنائية القطبية السابقة.
افتُتح اجتماع إندونيسيا.. بمناقشات حول تقرير بعنوان «زخم القوى المتوسطة – القوى المتوسطة الناشئة»، أصدرته المؤسسة الألمانية كوربر شتيفتونج.
حظيت وجهات نظر أربع دول باهتمام خاص، هي:
- الهند: المتواصلة مع القوى الكبرى.. لتعزيز علاقاتها معها، مؤمنةً بأن انكماش الولايات المتحدة، يتيح لها الفرصة لتوسيع علاقاتها مع القوى المتوسطة الأخرى، وأن النظام متعدد الأقطاب.. مفيد لها؛ وتتمتع بالثقة والقدرة على تعزيز رؤيتها الاستقلالية الاستراتيجية، أو إعادة تقييمها، دون أن تثقل كاهلها بعلاقات مُعوِّقة أو باهظة الثمن.
- البرازيل: تعاني من الفتور والإعياء.. في علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة. وتُكثِّف – وتُنوِّع – شراكاتها الأخرى؛ خاصةً من خلال مجموعة (البريكس). تستضيف قريباً العديد من الفعاليات العالمية.. لتوسيع نطاق سياستها الخارجية. ومع فرض إدارة ترامب رسوماً جمركية على العديد من دول العالم، رسَّخت الصين مكانتها كأكبر شريك تجاري للبرازيل.
- جنوب أفريقيا: اكتسب التعاون متعدد الأطراف لديها.. أهمية أكبر من أي وقت مضى، ولا سيما مع تدهور العلاقات بينها وبين إدارة ترامب. وتسعى جاهدة للتواصل مع الدول الأخرى.. على المستويين الإقليمي والعالمي. وستختبر استضافة البلاد لمجموعة العشرين.. مهاراتها الدبلوماسية في تقريب وجهات النظر والتوجهات المتباينة.
- ألمانيا: تُجري إعادة تقييم جذرية لعلاقاتها مع القوى العظمى، بما في ذلك حليفتها التقليدية.. الولايات المتحدة، من أجل نهج «تخفيف المخاطر» مع كل من روسيا والولايات المتحدة.. في أثناء إعادة التقييم. وهناك اهتمام أكبر، ودعم أعمق.. لإشراك دول الجنوب العالمي، بدلاً من الانحياز إلى الولايات المتحدة أو الصين.
وبينما تؤكد الدراسات الحديثة.. أن النظام العالمي اليوم، لا يزال غير واضح.. في ظل تعثر إصلاحات الأمم المتحدة، وقد استُبعدت معظم الدول العربية – بشكل ملحوظ – من المناقشات الأولية في المنظمة؛ باستثناء ما يتعلق بقضايا الطاقة.. أرى الآن أن هذه فرصة متاحة للدول العربية، لتكون أكثر صراحة وحزماً وإبداعاً.. في الإسهام في إعادة تشكيل النظام العالمي.
والسؤال الملح، هو كيف يُمكن تنظيم وتنسيق التعاون بين القوى المتوسطة.. لضمان إقامة نظام متعدد الأطراف يُناسب الجميع؟
تاريخياً، عندما تتلاقى المصالح، تتحد الدول، وتجد حلولاً جماعية.. حتى وإن لم تكن مثالية. وقد حققت دول عدم الانحياز الحديثة الاستقلال هذا بالفعل (في وقت سابق). ويتعين على غالبية واسعة ومتنوعة – من القوى المتوسطة اليوم – أن تنشط مجدداً؛ حيث ينبغي أن تكون موازنة المصالح الجماعية.. هي المبدأ الأساسي الذي تنتهجه وتسعى إليه.
والخطوة الأولى للقوى المتوسطة، هي الاستفادة من تجارب المنظمات الإقليمية.. في حل القضايا المختلفة، وإيجاد أرضية مشتركة.. من خلال إضفاء الطابع المؤسسي، والمشاركة في منصات مثل: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، والسوق المشتركة لأمريكا الجنوبية (ميركوسور).
وكخطوة ثانية، يمكن استخلاص أفكارٍ للتعاون بين القوى المتوسطة سياسياً، وقطاعياً ومؤسسياً.
ولعل تحديث مبادئ باندونج، وإعادة تعريف عدم الانحياز أمران ضروريان في عالم اليوم، وكذلك تعزيز الإنفاق التجاري والتنموي.. أمراً أساسياً، مع تقديم رؤية إيجابية للنظام العالمي والإصلاح الدولي.. لا سيما في الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، قد صار محورياً هو الآخر.
ويجب أن تنشط القوى المتوسطة.. في ملء الفجوات القائمة في النظام العالمي، وتتبنى العديد منها.. مبدأ الاستقلالية.
فهل يمكن للقوى المتوسطة في الشمال والجنوب أن تتحد؟ وهل يمكنها تجاوز التنافس، وتمهيد السبل للتعاون الفعَّال؟ وكيف ستتوصل إلى شكل النظام العالمي الذي تسعى إليه؟
إن إجابات هذه الأسئلة الجوهرية، هي ما ستحدد مستقبل السلام والأمن الدوليين.
نقلاً عن «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي».