Times of Egypt

هل يتجه الداخل اللبناني إلى الاستقرار؟

M.Adam
نيفين مسعد

د. نيفين مسعد..


بانتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية في التاسع من يناير 2025، طوى لبنان نحو عامين وشهرين.. من الفراغ الرئاسي، بعد انتهاء فترة الرئيس ميشيل عون.
ومع سدِّ الفراغ، أخذت تتكرَّس معالم المشهد السياسي الجديد، التي كانت قد بدأت تتشكل.. منذ تفجيرات أجهزة النداء الآلي، ثم تصفية قيادات حزب الله واستهداف قدراته العسكرية.
ويمكن القول إنه – بسبب هذه التطورات المتلاحقة – تم انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية بسلاسة ملحوظة، ثم كانت المفاجأة الأكبر.. بتكليف القاضي اللبناني الدولي البارز نوَّاف سلام بتشكيل الحكومة. وكان اللغط الذي أحاط بتكليف سلام، أكبر من اللغط الذي واكب انتخاب جوزيف عون؛ إذ قيل إن الثنائي الشيعي تعرَّض للخديعة.. بعد أن وافق على انتخاب عون، مقابل استمرار نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة؛ فقام الثنائي بتيسير انتخاب عون بالفعل، ليفاجأ بعد ذلك بتكليف نوَّاف سلام. ومن مجمل ما سبق، صرنا أمام مشهد سياسي يختلف كثيراً.. عمَّا كان عليه قبل أشهر قليلة. وفي هذا المقال، يتم تسليط الضوء على أبرز معالم هذا الاختلاف، ومحاولة استخلاص انعكاس ذلك على المستقبل اللبناني.
احتقان مكتوم:
على الرغم من موجة التضامن مع أعضاء حزب الله ومناصريه.. ممن استهدفتهم تفجيرات أجهزة النداء الآلي بالدرجة الأولى، فإنه – مع اشتداد القصف الإسرائيلي للضاحية الجنوبية وبلدات الجنوب اللبناني – ظهرت مشكلة النازحين إلى العاصمة بيروت، والمدن الأخرى التي لم يطلها القصف، وبدأت تظهر – في الوقت نفسه – إشكالات تتعلق باستقبال الشيعة.. في المناطق ذات الأكثرية المسيحية. وأخذت مؤشرات الاحتقان أبعاداً جديدة وواضحة، مع انطلاق عمليتي انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة؛ فلقد اعتبر حزب الله أن هناك نيّة متعمّدة.. لإقصاء عموم الشيعة، وإبعادهم من المشهد السياسي اللبناني؛ أي أن الحزب، ومعه حركة أمل، تعاملا مع محاولة تصحيح الخلل السياسي.. الذي ترتَّب على هيمنة الثنائي الشيعي على كل مفاصل الدولة (لمدة ثلاثة عقود) بوصفها محاولة لتقويض أي دور سياسي.. لكل شيعة لبنان.
وحول هذا المعنى، قيل كلام كثير؛ سواء عبر الخطابات الإعلامية للحزب، أم حتى عبر هتاف على شاكلة «شيعة.. شيعة»،الذي كان يتردد في مظاهرات جمهور الحزب. واقترنت هذه المظاهرات ببعض أعمال الشغب، وقطع الطرق الرئيسية.. لتأكيد الحضور الشيعي القوي في الشارع اللبناني.
ومثل هذا الخلط – بين الحزب والحركة من جهة، وعموم الشيعة اللبنانيين من جهة أخرى – يكفل تعبئة جماهيرية واسعة النطاق؛ حيث يُشعر المواطن الشيعي بأن وجوده نفسه.. بات هو المستهدف، وأن الأمر يتجاوز الخلاف مع فريق سياسي شيعي معين.. إلى الاضطهاد المذهبي للطائفة الشيعية، وفي هذا تحريف كبير.
استغل الخطاب السياسي للحزب.. الحملات الإعلامية المكثفة من جانب الفضائيات المسيحية ضد قياداته، وخصوصاً أمينه العام السابق السيد حسن نصر الله، لتمرير فكرة أن غياب نصر الله هو الذي سمح بالاجتراء على شيعة لبنان، وليس على انتقاد الحزب. وفي تلك الأثناء، أثيرت قضية إعمار بلدات الجنوب اللبناني وضاحية بيروت الجنوبية، وهي قضية حقيقية ووردت من أول لحظة في خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس جوزيف عون، لكنها – في الوقت نفسه – تحتاج إلى الاشتغال عليها.. لتوفير الموارد المالية اللازمة، وهي مسألة ليست سهلة لأنها ترتبط بقضية سلاح الحزب، وهي قضية شديدة الحساسية. صحيح أن القرار الدولي رقم 1701 – الذي التزم به الحزب – نص عليها، لكن تنفيذها أمر بالغ الصعوبة، ويفتقد الآليات الوطنية لوضعه موضع التطبيق.
عودة سعد الحريري:
ترك اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري – في 14 فبراير 2005 – فراغاً قيادياً في الساحة السنيَّة. وذلك أن الحريري لم يكن مجرد سياسي محنَّك، له حضوره الكاريزمي في المشهد اللبناني؛ بل كان أيضاً رجل الأعمال واسع الثراء، الذي أعاد إعمار منطقة وسط بيروت بعدما دمَّرتها الحرب الأهلية اللبنانية بالكامل. وهو أيضاً صاحب شبكة العلاقات الإقليمية والدولية الواسعة.. التي جعلت لبنان يشهد واحدة من أكثر فترات تاريخه الحديث ازدهاراً في التسعينيات وحتى تاريخ اغتياله.
واجه سعد الحريري – نجل رئيس الوزراء الأسبق – تحديات في ملء الفراغ السياسي بعد اغتيال والده، على الرغم من الالتفاف الشعبي العابر للطوائف والأديان حوله؛ من بينها الاختلافات السياسية بين مكونات تيار المستقبل. أما وقد عاد سعد الحريري – في الذكرى العشرين لاغتيال والده – للإعلان عن أن تيار المستقبل سينخرط مجدداً في الحياة السياسية، ويشارك في الانتخابات البلدية لهذا العام، والانتخابات النيابية في العام المقبل؛ فإن هذا التطوُّر كان جديراً بإثارة التساؤل.. عن فرصة جمع شمل السنَّة تحت قيادة ابن الرئيس الشهيد – كما يوصف في لبنان – هذا علماً بأنه في ظل مقاطعة تيار المستقبل انتخابات مجلس النوَّاب لعام 2022، توزَّعت المقاعد النيابية للسنَّة على شخصيات عدَّة أكثرها مستقل.
في الإجابة عن السؤال المثار، لا بد بدايةً من التنويه بأن خطاب سعد الحريري – في الذكرى العشرين لاغتيال والده – وجَّه رسالتين مهمتين لأنصار حزب الله؛الأولى: دعوتهم للانخراط في مشروع الدولة، بدلاً من أن يكونوا جزءاً من محاور أخرى.. في إشارة لمحور المقاومة الذي تتزعَّمُه إيران. والثانية:تأكيده الحق الحصري للدولة في امتلاك السلاح.. ومعنى ذلك واضح. كما لا بد من التنويه بأن عودة سعد الحريري، تأتي في ظل التطورات الحاصلة في الجارة سوريا، وإسقاط نظام بشار الأسد، الذي يعتبره سعد.. مسؤولاً عن اغتيال والده، وكذلك تقليص نفوذ حزب الله، الذي أدين بعض أعضائه في عملية الاغتيال.
أي إنه من الناحية النظرية، تبدو البيئة اللبنانية مواتية لدور كبير يؤديه.. في زعامة الطائفة السنيَّة. لكن من الناحية العملية، هل سيكون سعد قادراً على أن يؤدي أداءً يختلف عن أدائه خلال المرات الثلاث السابقة.. التي تولى فيها رئاسة الحكومة اللبنانية؟
وعندما نأتي لقيادة تيار المستقبل؛هذا التيار.. الذي شكَّل في بداية نشأته مظلة واسعة، لبعض أبرز القوى السياسية اللبنانية.. نجد أن المؤشرات تتجه إلى أن بهية الحريري – شقيقة رفيق الحريري – هي المهيأة لاستلام قيادة التيار. وتتمتع هذه المرأة بالعديد من المميزات.. التي تمكنها من ممارسة هذه القيادة، فقد سبق لها الانخراط في عدد من أخطر الأزمات السياسية، التي تعرَّض لها لبنان بعد اغتيال شقيقها، لكن هناك فارق بين قيادة التيار، ولملمة صفوفه قبيل الانتخابات القادمة، وهذا احتمال وارد، وبين قيادة التيار.. والقدرة على إعادة تموضع السنَّة؛ كطرف فاعل في المشهد السياسي اللبناني. وهذا مشكوك فيه. وبطبيعة الحال، فإن التمثيل النيابي.. هو جزء من أدوات التأثير في عملية صنع القرار، لكن مَن الذي يمكنه أن يقطع، بأن التيار ستكون له أغلبية المقاعد البرلمانية.. المخصَّصة للطائفة السنيَّة في البرلمان؟
تزايد الحضور الأمريكي:
للولايات المتحدة حضور قوي وقديم في لبنان، وهو – على امتداد تطوره – اتخذ أشكالاً مختلفة؛بدءاً من الإنزال العسكري في الخمسينيات، والمشاركة في القوات متعدّدة الجنسيات في الثمانينيات، وحتى ترسيم الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية، وصياغة اتفاق وقف إطلاق النار بين الدولتين في عامي 2022 و2024 على التوالي. والولايات المتحدة هي المصدر الأساسي للسلاح، والمعونة الاقتصادية.. المقدَّمة إلى لبنان؛ أي أننا إزاء ظاهرة ليست بالجديدة. ولكن تراجُع نفوذ المعسكر الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، (ومن ضمنها لبنان)، سمح للولايات المتحدّة بمزيد من تعزيز نفوذها داخله. وتعبِّر تصريحات مورغان أورتاغوس – نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط – خير تعبير عن هذا التطور.. في تدخُّل الولايات المتحدة في تفاصيل الشؤون السياسية اللبنانية. فمن داخل قصر الرئاسة في بعبدا، رحبت أورتاغوس بهزيمة حزب الله.. على يد إسرائيل، ودعت إلى عدم مشاركة حزب الله.. في حكومة نواف سلام.
هذه التصريحات سبَّبت حرجاً شديداً للرئيس اللبناني؛ ومن ثم علَّق عون على تصريحات أورتاغوس.. بأنها تعبِّر عن قائلتها، ولا أحد غيرها. وأن الرئاسة غير معنية بها. ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء (لمدة خمس سنوات) – وقت هيمنة حزب الله على الحياة السياسية في لبنان – لوجدنا أن بعض التصريحات غير الدبلوماسية – التي صدرت عن السفيرة الأمريكية في بيروت، دوروثي شيل – التي انتقدت فيها فساد الطبقة الحاكمة، واتهمت حزب الله بأنه يهدد الاستقرار السياسي للبلاد، ويمنع رخاءها الاقتصادي؛ أدَّت إلى قيام قاضي الأمور المستعجلة في مدينة صور، بإصدار قرار يمنع بموجبه شيل من الإدلاء بتصريحات إعلامية، مع حظر تعامل الإعلام اللبناني معها.
أما في حالة أورتاغوس، فلقد انتهى الأمر عند تعليق الرئاسة اللبنانية – الذي سبقت الإشارة إليه – ومن الناحية العملية، لم يشارك أعضاء في حزب الله في التشكيل الحكومي؛ وهذا يوضِّح لنا اختلاف السياق السياسي ما بين عامي 2020 و2025.
… تكشف بعض التطورات عن أن الولايات المتحدة تتحضَّر لدور واسع في داخل لبنان؛ فمبنى السفارة الأمريكية – الذي بدأ العمل به في منطقة عكار قبل عامين – يُعد هو الثاني من حيث الحجم بين كل السفارات الأمريكية حول العالم، وسيعمل به نحو 5 آلاف موظف، وهو رقم كبير جداً في العموم.. إذا ما تمّت مقارنته بمساحة لبنان – التي تبلغ نحو 10500 كيلومتر مربع – وعدد سكانه البالغ نحو 5 ملايين نسمة.. على وجه الخصوص. ومن الجدير بالذكر، أن أكبر سفارة للولايات المتحدة تقع في العراق، ويجمع بين لبنان والعراق.. أنهما ساحتان من ساحات التمدد الإيراني.
محفزات عدم الاستقرار:
تمثل العناصر السابقة، ما يمكن وصفه بقنابل جاهزة لتفجير الاستقرار السياسي بلبنان؛ فمن جهة.. نحن لدينا طائفة تشعر بالمظلومية الشديدة، التي تهدف ربما لإعادتها لوضعها.. قبل أن يظهر الإمام موسى الصدر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ويطلق حركة المحرومين في الجنوب اللبناني. ومشاعر المظلومية بشكلٍ عامٍ.. لا يهمُّ فيها ما إذا كانت تعكس واقعاً فعلياً أم لا؛ المهم هو أنها تجعل أصحابها معبئين، وجاهزين للاشتعال في أي وقت.
ومن الموضوعية، القول إن هناك بعض القوى السياسية المسيحية بالذات، تسعى لتوظيف الخسائر العسكرية للحزب على كل الأصعدة؛ بالذات على الصعيد السياسي، وهذا يسهم في تفاقم الوضع.
ومن جهة أخرى، فإن الكتلة السنيَّة لم يقيَّض لها بعدُ.. وجود قيادة سياسية قوية، يُمكنها أن تزيد عدد اللاعبين على قطعة الشطرنج اللبناني. وهذا التركيز الشديد في عدد اللاعبين، من شأنه أن يعمِّق حدَّة الاستقطاب. ثم يأتي النفوذ الأمريكي، ومن ورائه النفوذ الإسرائيلي.. المتعاظم في لبنان؛ ليزيد من مبررات الاحتقان الداخلي. والأهم.. إحراج الدولة اللبنانية، التي هي مطالبة أمام الرأي العام.. بحماية السيادة اللبنانية؛ إن أرادت قطع الطريق على سلاح حزب الله.
هذا كله، دون الحديث عن القلق المصاحب لمستقبل العلاقات السورية-اللبنانية.. في ضوء المناوشات الحدودية، والاستفزازات المتبادلة بين الطرفين؛ التي كان آخرها اتهام حزب الله باختطاف عناصر أمن سوريين وقتلهم.. في منتصف مارس الماضي، ونفي الحزب لذلك.
اعتدنا مع لبنان، أنه قادر على المشي دائماً.. على حبل مشدود، وأملنا أن يحتفظ بهذه المهارة الفائقة، وإن تعاظمت التحديات التي يواجهها الشرق الأوسط برمَّته، وليس لبنان فقط.

نقلاً عن «مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة»

شارك هذه المقالة