د. أحمد يوسف أحمد
أكتب هذه المقالة.. وسط تصريحات لا ينقصها الغموض، مصدرها ستيف ويتكوف وبنيامين نتنياهو، تتحدث حيناً عن قرب التوصل لاتفاق جديد بين إسرائيل وحماس، وحيناً آخر عن أن موافقة أي من الطرفين على الاتفاق لم تتم بعد، وربما يتزامن نشر المقالة مع إعلان اتفاق ما، وإن كانت الخبرة الماضية المستمدة من السلوكين الإسرائيلي والأمريكي، تفيد بأن التوصل لاتفاق لا يعني بالضرورة تنفيذه وعدم الانقلاب عليه.
لكني أود – في هذه المقالة – نقل النقاش وحديث التوقعات.. من المدى اللحظي إلى المدى الطويل؛ بحديث عن «نهاية إسرائيل»، وأتمنى ألا يسارع الكثيرون إلى وصف الحديث بالخزعبلات أو الأوهام وأضغاث الأحلام، فاللحظة تشهد بالتعبير القرآني «علواً كبيراً» لبني إسرائيل، فها هي تقتل وتدمر في غزة والضفة.. منذ أكثر من سنة ونصف السنة.. دون رقيب أو حسيب، وتفرض سيطرتها على الوضع في لبنان وسوريا، وتضرب اليمن عقاباً للحوثيين، بل وتشير تقارير أمريكية إلى نيتها ضرب المنشآت النووية في إيران.. حال أخفقت المباحثات الحالية بينها وبين الولايات المتحدة. والخلاصة أن إسرائيل تبدو في ذروة قوتها، فكيف يستقيم الحديث عن نهايتها؟
وبدايةً، يجب أن يكون واضحاً.. أن هذا حديث المدى الطويل، ومع ذلك فإن توافر شروط معينة.. يمكن أن يجعله ممكناً في المدى المتوسط، بما قد يُمكن الشرائح الشابة في الأجيال الحالية من إدراكه، كذلك فإن نقطة الوصول لذروة القوة.. تمثل أحد المفاتيح الأساسية في فهم التحليل التالي، ذلك أن التاريخ يحدثنا بوضوح.. عن أن لكل قوة حدوداً، وأن توالي الانتصارات يُعمي القوى التوسعية.. عن إدراك هذه الحدود، فتنخرط في مزيد من السلوك التوسعي – الذي يتجاوز قدراتها – وتبدأ في الانحدار وصولاً إلى النهاية، وقد كانت هذه – مثلاً – هي الآلية التي تحطمت بها الأحلام الإمبراطورية العالمية.. لكل من نابليون وهتلر، على الصخرة الروسية فالسوفيتية؛ عندما صوَّر لهما غرورهما.. أنهما قادران على مد سيطرتهما إلى تلك الدولة القارة، التي قيل عن قادتها إنهم يشترون الوقت بالأرض؛ أي لا يمانعون في خسارة الأرض، ما دام ذلك سيُكسبهم الوقت الكافي.. لحسن الاستعداد، بما يُمكنهم من هزيمة عدوهم.
غير أن فكرة «نهاية إسرائيل» لا تستند إلى فكرة حدود القوة وحدها، بل إن هذه الفكرة ليست سندها الأساسي، كذلك فإنها لا تستند إلى نبوءات دينية شائعة.. لست مؤهلاً للإفتاء فيها، ولا إلى ما يعتقده بعض اليهود.. من اقتراب النهاية، لأن أي كيان سياسي يهودي سابق تاريخياً، لم يجاوز عمره ثمانية عقود، وهو ما يجعلنا على بُعد سنتين من النهاية؛ فالسند الرئيسي لمقولة «نهاية إسرائيل».. مستمد من القانون العلمي لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار؛ الذي يفيد بأن كل استعمار يولِّد مقاومة، وأن هذه المقاومة – وإن بدأت بالغة الضعف – تتطور بالتدريج.. باتجاه التوازن مع المستعمر. ويرجع هذا التطور لواقعة الاستعمار ذاته، الذي تتصادم ممارساته مع أبسط حقوق الشعوب المستعمَرة؛ بما فيها الحق في الحياة، بما يرتب لهذه الشعوب مصلحة أصيلة.. في القضاء على المستعمر، ويجعل منها حاضنة أكيدة لحركات التحرر.. التي تتبع أساليب غير تقليدية في القتال، فيما يُعرَف بحروب العصابات أو الحروب غير المتماثلة، فضلاً عن أن عديداً منها.. لقي أحياناً دعماً خارجياً مؤثراً.. بغض النظر عن دوافعه، وهكذا تتطور حركات التحرر – رغم ما قد تتعرض له من نكسات مؤقتة تاريخياً – حتى تُحقق هدفها في الاستقلال، ليس بالضرورة لأنها هزمت المستعمِر، ولكن لأنه فشل في هزيمتها.
ومن المهم أن أساليب النضال التحرري.. ليست عسكرية فقط، وإنما تتنوع؛ من العسكرية المطلقة كالحالة الجزائرية، إلى السلمية التامة كالحالة الهندية، إلى الجمع بين الأسلوبين – بشكل أو بآخر – كحالة جنوب أفريقيا.
وثمة من لا يقبل هذا التحليل، على أساس أن استعمار المستوطنين البيض في أمريكا.. قد نجح، وهذه نقطة مهم جداً الرد عليها، لأنها تطرح فكرة الاستثناء من القانون العلمي للتحرر الوطني، غير أنه يجب أن يكون واضحاً.. أن تجربة انفراد المستوطنين البيض بالشعوب الأصلية في القارة الأمريكية، تمت في سياق زمني وتاريخي مختلف تماماً، ولا يصح القياس عليها، فلم تكن هناك قوى تناصر تلك الشعوب، ولا وسائل اتصال.. توثق للجرائم المرتكبة ضدها، ولا رأي عام عالمي.. ينتفض ضد هذه الجرائم، كذلك يتساءل البعض: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحصل الشعب الفلسطيني على استقلاله؟ كما حصلت الشعوب الأخرى – وبالذات العربية، وبحد أقصى مطلع سبعينيات القرن الماضي. والرد أن تجربة الاستعمار الصهيوني لفلسطين.. هي أحدث التجارب الاستعمارية، وهي لم تُكمل العقود الثمانية بعد، بينما طال أمد الاستعمار الفرنسي للجزائر والبريطاني لجنوب اليمن نحو قرن وثلث القرن، والاستعمار الأبيض لجنوب أفريقيا قروناً.
طرحت هذه الأفكار ثلاث مرات.. في منتديات عن الحرب الجائرة الدائرة الآن في فلسطين، وكان أحد أهداف طرحها، ما لاحظته من تراجع الروح المعنوية لبعض مؤيدي الحق الفلسطيني.. بسبب فداحة الخسائر البشرية والمادية، الناجمة عن الجرائم الإسرائيلية. ولا يعني هذا أن الغرض من طرحها كان مجرد رفع المعنويات، فهذه الأفكار لها سندها العلمي، ولا أنسى أستاذي الجليل عبدالملك عودة.. الذي حدثنا – في آخر ستينيات القرن الماضي – عن المصير المحتوم للنظام العنصري في جنوب أفريقيا.
قلنا ساعتها، إن إيمان الرجل بقضية التحرر الوطني، وعشقه لأفريقيا.. دفعاه إلى إصدار هذا الحكم، فلم يمضِ عقدان من الزمن.. إلا وكانت نبوءته قد تحققت، غير أن القوانين العلمية للظواهر الاجتماعية.. لا تعمل من تلقاء ذاتها، وإنما لا بد لها من قوى تُفعِّلها، فما شروط تفعيل قانون التحرر الوطني في الحالة الفلسطينية؟
هذا ما أحاول مناقشته في المقالة القادمة، بإذن الله.
نقلاً عن «الأهرام»