Times of Egypt

نمل «فولتير» العابر

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة..


اختص المؤرخ «ويل ديورانت» مجلداً من موسوعته «قصة الحضارة» -(أحد عشر مجلداً) – بعنوان «عصر فولتير». وفي هذا، ما يبين عن مدى اعتقاده في أهمية دور «فولتير» وتأثيره في عصره، وإلى يومنا هذا. وبقدر امتداد عمر «فولتير» (1694- 1778)، تنوعت وتعددت إسهاماته الفكرية والإبداعية، ما بين الشعر والتأريخ والمسرح والرواية والكتابات الفلسفية.
وعلى الرغم من شهرة «فولتير» وصداقته للملوك والأمراء، فقد تعرضت بعض مؤلفاته للحرق والمنع؛ بحجة الإلحاد والفسق والفجور. فقد كان أحد أهم أعمدة «التنوير»..في القرن الثامن عشر. ولم تكن مهمة التنويريين سهلة في تلك الآونة، ولذا فقد اعتاد المناورة والتحايل.. في سبيل نشر وتمرير أفكاره الصادمة للعقائد السائدة، دون أن يتعرض للعقاب، حتى إن مؤلَّفاً من أهم مؤلفاته على الإطلاق – وهو رواية «كانديد» أو «المتفائل» – قد صدرت باسم مستعار.. ليتحاشى سوء العاقبة.

  • كان «فولتير» – على الأرجح – ربوبياً Deist مثل العديد من مفكري عصره.. عصر التنوير – وإن كان البعض يعده ملحِداً التزم «التقية» – كان يؤكد ضرورة أن يستخدم الناس عقولهم، وأن يرفضوا تعاليم «الديانة المنظمة» ومؤسساتها؛ فالعلاقة مع الله لا تحتاج إلى وسطاء، أو «وحي»..بالضرورة. بل إنها تتجلى بشكل أفضل من خلال اللقاء مع خلقه ومع الطبيعة، وفي ذلك أفضل الطرق لفهم القيم الدينية والأخلاقية. كان يُكِنّ كراهية شديدة لرجال الدين.. بكافة مِلَلهم ونِحَلهم، نظراً لتعصبهم المقيت. هادَنهم تارة، وناصبهم العداء وسخر منهم.. تارة أخرى، وذلك وفقاً للسياق والظروف الملائمة. وربما كان ما كتبه في موسوعته الفلسفية – ونقتطف منه في الفقرة التالية – هو أقرب ما يكون ممثلاً لعقيدته الحقيقية في نهاية عمره، وإيمانه بالدين الطبيعي و«الكائن الأسمى»، صانع هذا الكون. يقول «فولتير» في موسوعته تلك:
  • «إن المؤمن بالإله الواحد.. هو إنسان مقتنع – كل الاقتناع – بوجود كائن أسمى فاضل وقوي، خلق كل شيء، يعاقب على الخطايا بلا قسوة، ويجزي على صالح الأعمال في رفق وحنان. إن المؤمن لا يعرف كيف يعاقب الله وكيف يكافئ، وكيف يعفو، وكيف يغفر لأنه لم تبلغ به الجرأة حدّاً يخدع معه نفسه، بأنه يدرك كيفية تحقق المشيئة الإلهية، ولكنه يعلم أن الله فعال لما يريد، وأن الله عادل. إن العقبات التي تعترض العناية الإلهية.. لا تزعزع إيمانه. إنه يخضع لتلك العناية الإلهية، ولو أنه لم يدرك منها إلا بعض آثارها وبعض المظاهر. إنه يحكم على الأشياء التي لا يراها.. بالأشياء التي يراها. ومن ثَمَّ فإنه يرى أن هذه العناية الإلهية تحيط بكل مكان وبكل زمان.. إن ديانته هي أقدم الديانات وأوسعها انتشاراً، لأن العبادة البسيطة لله.. سبقت ما عداها من الأساليب والطرق في هذا العالم. إنه يؤمن بأن الديانة لا تقوم على آراء الميتافيزيقا المبهمة – التي يصعب فهمها – ولا على الزخارف والديكورات والإكسسوارات العقيمة، بل تقوم على العبادة والتقديس والعدالة. إن عمل الخير عبادته، والخضوع لله عقيدته..».
  • في عام 1762 – وفي مدينة تولوز الفرنسية – عُثر على ابن بائع الأقمشة البروتستانتي، «جان كالاس»، مشنوقاً.. في محل أبيه. سَرَت شائعة سريان النار في الهشيم، بأن الأب قد شنق ابنه.. لأنه كان ينتوي اعتناق الكاثوليكية. تمت محاكمة الأب – في جو تعصب هستيري – ثم إعدامه علانية.. على عجلة التعذيب. شنَّ «فولتير» حملة شجاعة دفاعاً عن الضحية المظلومة «كالاس»، أسفرت عن تبرئة الرجل، ولكن بعد فوات الأوان. وبسبب تلك القضية، أصدر «فولتير» أطروحة عن التسامح، يعرض فيها لتاريخ التعصب الديني. ونعرض منها بعض العبارات:
  • «عندما لا يكون لدى الناس مفاهيم صحيحة عن الألوهية، تحل محلها أفكار خاطئة، تماماً كما يستخدم المرء في الأوقات السيئة.. أموالاً مزيفة، عندما لا تكون هناك أموال جيدة».
  • «القوانين تتكفل بالجرائم العلنية، والدين يتكفل بالجرائم السرية».
  • «عندما يتحول الإيمان البشري إلى دين نقي ومقدس، فإن الخرافة لا تصبح عديمة الفائدة فحسب، بل تصبح خطيرة للغاية».
  • «الخرافة بالنسبة للدين.. هي بمثابة التنجيم بالنسبة لعلم الفلك: الابنة الحمقاء لأم حكيمة للغاية. هاتان الابنتان، الخرافة والتنجيم، استعبدتا العالم لزمن طويل».
    «إذا أمرَنا أساتذة الأخطاء – وأنا أتحدث هنا عن السادة العظماء، الذين طالما نالوا أجراً وشرفاً نظير إساءتهم معاملة الجنس البشري – اليوم بالاعتقاد بأن البذرة يجب أن تموت حتى تنبت، وأن الأرض ثابتة على قواعدها، وأنها لا تدور حول الشمس، وأن المد والجزر ليسا تأثيراً طبيعياً للجاذبية، وأن قوس قزح لا يتشكل من انكسار وانعكاس أشعة الضوء.. وما إلى ذلك، واستندوا في أحكامهم إلى مقاطع من الكتاب المقدس.. غير مفهومة جيداً، فكيف ينظر المتعلمون إلى هؤلاء السادة؟ هل يبدو وصفهم بكلمة (الوحوش) قوياً مغالياً للغاية؟.. وإذا استخدم هؤلاء السادة الحكماء.. القوة والاضطهاد لفرض غبائهم الوقح، فهل يبدو وصفهم بعبارة (الوحوش البرية) متطرفاً؟».
  • «هؤلاء الناس يحتقروننا؛ يعاملوننا كأننا عبدة أوثان!. حسناً، سأقول لهم إنهم مخطئون بشكل فادح. يبدو لي أنني سأدهش الإمام المسلم المتعصب، أو الكاهن البوذي.. إذا تحدثت إليهما قائلاً: (هذه الكرة الصغيرة، التي ليست سوى نقطة، تدور في الفضاء، كما تفعل العديد من الكرات الأخرى؛ نحن ضائعون في اتساع الكون. الإنسان، الذي لا يزيد ارتفاعه على خمسة أقدام، ليس بالتأكيد سوى شيء ضئيل بين المخلوقات. يقول أحد هذه الكائنات غير المحسوسة.. لجيرانه الآخرين – في شبه الجزيرة العربية، أو جنوب أفريقيا – : استمع إليَّ، لأن إله كل هذه العوالم قد أنارني، هناك تسعمائة مليون نملة صغيرة مثلنا على الأرض، لكن جحر النمل الخاص بي.. هو الوحيد العزيز على الله؛ كل النمل الآخر سيطرده إلى الأبد؛ جحر النمل الخاص بي سيكون سعيداً، وكل الآخرين سيُلعنون إلى الأبد)، ثم يقاطعونني، ويسألونني: مَن الأحمق الذي ثرثر بكل هذا الهراء. سأضطر للإجابة: (أنتم، أنفسكم). سأحاول بعد ذلك تهدئتهم، وهو ما سيكون صعباً للغاية».
  • «ليس فقط.. إنه من القسوة بمكان، أن نضطهد أولئك الذين لا يفكرون بالطريقة التي نفكر بها، ولكن هل يجوز أن نعلن عن إدانتهم الأبدية؟يبدو لي أنه ليس من حق ذرات عابرة – من أمثالنا – أن تتوقع أحكام الخالق».
    نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة